اخر الاخبار

"الأمم المتحدة عبارة عن كلمات فارغة، والتغيّر المناخي هو أكبر عملية احتيال دُبّرت بليل، والمهاجرون سيلقون بنا في الجحيم." لم يُفاجئ ترامب أحدًا بهذا الهراء الذي أطلقه من على منبر الأمم المتحدة، لأنه ببساطة جاء مكمّلًا للخراب الذي تنشره إدارته في العالم، وما تقترفه من جرائم بحقّ الشغيلة الأمريكية، سواء في إضعاف التنظيم الجماعي للعمال، أو في إلغاء الرعاية الصحية والتضييق على الحريات، أو في إبقاء الملايين تحت خط الفقر، وإحباط أي مسعى لحماية البيئة.

وفي باريس، لا يختلف الحال كثيرًا، فها هو ماكرون يدور قلقًا من خسارة فرنسا لأفريقيا، ساعيًا لإعادة سنوات الاستعمار الدموية بنسخةٍ معاصرة، فيما تشتدّ قسوة ظروف عمل الشغيلة وتتدنّى أجورهم. وفي إيطاليا، التي تزداد فيها معدلات البطالة بين الشباب، ويتضاعف الدين العام، وتتآكل الدخول بفعل التضخّم وارتفاع تكاليف الطاقة، تُحمّل ميلوني الأقليات مسؤولية "الانحلال الأخلاقي"، في نسخةٍ طبق الأصل لمعلّمها المقبور موسوليني، الذي تمكّن حينها من الهيمنة عبر إخافة الطليان من البلشفية والسلافيين. وحين تواصل رحلتك في الأرجنتين، وهنغاريا، والسلفادور، والسويد، والنمسا، والهند، ستجد المآسي متّسقة مع حجم جرائم رأس المال.

وعلى الرغم من أن أغلب البشر باتوا يُدركون مخاطر السياسات الفاشية عليهم، ينفرد اليسار، ليس فقط بما يمتلكه من إرادة كفاحية لإسقاط تلك السياسات، بل أيضًا في تشخيصه للترابط الجوهري بين سعي شعوب الدول الرأسمالية لإحباط الهجوم البربري على مكتسباتها، وبين نضال شعوب دول الأطراف لنيل حريتها وحقوقها.

غير أن الإرادة وحدها تبقى قاصرةً عن الفعل، وتباينُ الرؤى بين أطياف اليسار حول أدوات ذلك التصدّي، يقف - كما يبدو - وراء تَلكُّؤ المواجهة وضعفها. فهناك أطياف يسارية باتت لا تعترف بحدوث تغييرات كبيرة في طبيعة مهامها، مستشهدةً ببقاء التفاوت الطبقي شديدًا، والأزمات متكررة، وأكذوبة الازدهار الرأسمالي، الذي سيخلّص الناس من الإملاق، مفضوحة؛ خاصة بعد دخول البشرية في دورة جديدة من الحروب، بدل الوصول إلى السلام مع نهاية الحرب الباردة.

وهناك من هذه الأطياف من يعترف بأنه لا مناص من التصدّي لذات القضايا الكلاسيكية، كالاستغلال، والهرمية الطبقية، والتمييز على أساس العرق والجنس، ونهب خيرات الشعوب المستضعفة، والحط من كرامتها؛ لكنه يصرّ على تبنّي أساليب معاصرة في المواجهة، مختلفًا مع من يرى ضرورة الجمع بين أساليب كلاسيكية سادت عند ولادة الرأسمالية، ونمو الطبقة العاملة، واشتداد الصراع، وبين أساليب جديدة تتلاءم مع تغيّر القاعدة الاجتماعية، التي يجب أن تتّسع ليس للشغيلة فحسب، بل وللطبقة الوسطى ذات التأثير الأكبر، في ظل تراجع التصنيع، وانتشار التعليم، وهيمنة الثورة المعلوماتية، مستشهدًا بما حقّقته نجاحات اليسار الوردي في أمريكا اللاتينية، حيث كان للطبقة العاملة نفوذ محدود، قياسًا بالدور البارز الذي لعبته الفئات الوسطى، بتمرّدها، وبراغماتيتها، ومرونتها التكتيكية.

ورغم أن كثيرًا من هذه الأطياف لا يتخلّى عن الشغيلة كرأس رمح في قاعدته الاجتماعية، متوقّعًا بأن تؤدّي الأنماط الجديدة للاستغلال إلى مواجهة بين الرأسمالية والعمال، تُنمّي وعيهم بضرورة التنظيم، تمامًا كما حدث قبل قرن مضى، فإنهم يشترطون لتحقيق ذلك استنباط برامج تعبويّة جديدة، وتبنّي أشكال تنظيمية تواكب تحدّيات العصر، والعمل على تحقيق تحوّلات اجتماعية جذرية، كمحو الأمية، وتحسين استخدام التكنولوجيا الحديثة، والحد من الانقسامات العرقية والدينية، وتقليص الفوارق بين مختلف أنواع العمل.

وتبقى، في خضم هذا الصراع الفكري، الدعوةُ إلى حوارٍ دؤوب ومنظّم، يُنمي الوحدة ويعزّز التضامن، ويبدّد العتمة، من أكثر اشتراطات التقدّم إلحاحًا.