اخر الاخبار

في إحدى زوايا الحلة القديمة، وتحديدًا في محلة الجامعين، بزغ نجم شاعر حمل همّ الناس على كتفيه، ونسج من ضوء الفجر كلمات تمورُ بها الشكوى وتغني بالأمل... هناك وُلد علي عزيز بيعي عام 1946، ليكون فيما بعد أحد الأسماء المضيئة في خارطة الشعر الشعبي الحديث في العراق، وأحد أولئك الذين هتفوا للحرية فأوجعتهم الأصفاد، وتغنّوا بالكادحين فعاقبهم الجلادون.

نشأ بيعي في بيئة تنبض بالحياة، وتخرّج من معهد المعلمين عام 1970، وعُيّن معلّمًا في الموصل، ثم عاد ليستقر في مدينته الحلة. لكن التعليم لم يكن سوى جزء من كيانه، إذ كانت القصيدة تسكنه منذ فتوة مبكرة، وكانت المفردة عنده عشقًا، والصورة الشعرية وعدًا لم يُخلفه يومًا.

في أواسط ستينيات القرن الماضي، بدأت ملامح تجربته الشعرية تتضح، حين انضم إلى ندوة "عشتار" الأدبية في الحلة، وهي ندوة بارزة كتب عنها الباحث عبد الرضا عوض، ووثّق نشاطها في كتاب نُشر عام 2010. هناك، وسط كوكبة من الأدباء والمثقفين، بزغ صوته واضحًا ومميزًا، وهو يكتب القصيدة الفصيحة والشعبية معًا، لكن روحه وجدت في الشعر الشعبي أفقًا أرحب، فحلّق فيه، مغامرًا باللغة، وبالبنية، وبالموقف.

كان ماركسيًا لا يخفي انتماءه، فكان جزاؤه المرض والخذلان. فقد مُنع عمله الأوبرالي "البحّارة" في السبعينيات، وكان من أبرز الأعمال الغنائية التي أُجهضت قبل أن ترى النور بسبب موقف السلطة من توجهاته الفكرية، إذ ظل بيعي وفيًّا لفقراء بلده، متمسكًا بقيمه، يكتب عن الحرية والعدل والناس البسطاء. ولم يكن مجرد شاعر، بل كان شاهداً حزينًا على انكسار الحلم، حيث واجه القمع بصمت، إلى أن وافته المنية في 24 شباط 1981، متأثراً بمرض لم يكن معزولاً عن المناخ الخانق الذي عاشه.

وفي عام 2008، أحيا محبّوه أمسية استذكاريه في جمعية الرواد في الحلة، مساء يوم جمعة، كأنهم يريدون أن يعيدوا لروحه بعضًا من العزاء، وأن يعترفوا له بما كان يستحق من حياة ومجد. لكن المفارقة المريرة أن ديوانه الشعري، الذي وعد قريبه صلاح بيعي بجمعه ونشره، ظل طيّ النسيان رغم مضي أكثر من عشرين عامًا على ذلك الوعد.

نقاد الأدب الشعبي ممن عايشوا تجربته، رأوا فيه أحد روّاد الحداثة الشعرية في الجنوب والوسط العراقي. فهو لم يكن شاعرًا تقليديًا يسبح في فلك الموروث دون تمرد، بل كان يسعى إلى بناء نصّ شعبي جديد، متين البنية، غني الدلالة، يتكئ على لغة عصرية وصور مبتكرة، دون أن يتخلى عن روحه العراقية الأصيلة. وقد كتب عنه بعض النقاد بوصفه شاعرًا كان بإمكانه أن يكون أحد أبرز أصوات الشعر الشعبي الحديث، لولا الردة الثقافية والسياسية التي اجتاحت البلاد، وأعادت القصيدة إلى الوراء، حيث الاجترار والتقليد والتسطيح.

كان علي بيعي يؤمن بأن الشعر الشعبي يمكن أن يكون عالميًا في روحه، إن حمل همّ الإنسان، وتجاوز محليته الضيقة، وقد حاول أن يبرهن على ذلك في نصوصه، التي لم يُتح لها أن تخرج إلى الناس بتمامها، لكن من عرفوه وحفظوا شيئًا من شعره، يدركون أي خسارة فادحة لحقت بالثقافة العراقية برحيله المبكر.

إن الحديث عن علي بيعي، ليس استذكارًا عابرًا لشاعر منسي، بل هو استدعاء لأحد الذين حاولوا أن يمنحوا القصيدة الشعبية حياةً جديدة، وصوتًا مختلفًا، قبل أن تلتفّ حولهم خناجر السياسة، وتغيب ملامحهم في الضباب. فلربما آن الأوان أن يُنشر ديوانه، ويُعاد الاعتبار لصوته، ويُقرأ شعره بوصفه جزءًا من مقاومة جمالية وثقافية ضد القبح والاضطهاد. ولا يزال اسمه، بين ركام السنين، يلمع كوردةٍ نبتت على ضفة نهر الفرات، ورفضت أن تذبل.

من شعره قصيدته التي يقول فيها:

يا شعبي يا غنـــوتي

يلي بفرح هلــــــــــيت

وطفيت بي التــــعب

اوجيتني وجيـــــــت

انت نبع دنـــــــــيتي

ومنك ترابــي رويت

وانت فخاتي الصبح

وانت حمامة بــــيت

وانت الأبو المنحني

ونعم الأبو وربيـــت 

وكأن الموت يراوده ويقرع خياله لذلك يقول عنه: 

ها.. بالموت

وجه بنادم، دنيه ﭽبيره

تمشي بگلب بنادم.. صوت

وصوت بنادم، شهگة غيره

ما تغفه أعله الذل وتموت

دم يسولف

دم يخاف

دم يطحن.. ذايب بسكوت

دم يرد بعظم بنادم..

ﭽيلة ترد روحه بلا موت

دم يفز بليل بنادم

نجمه وعل الغافين تفوت