قالت منظّمة العفو الدوليّة اليوم إنه بعد ست سنوات على اندلاع الاحتجاجات التي عمّت البلاد في أكتوبر/تشرين الأول 2019، والمعروفة بتظاهرات تشرين، تواصل السلطات العراقية اضطهاد النشطاء والمتظاهرين، فيما تخفق في تحقيق أي عدالة فعلية أو محاسبة حقيقية عن مقتل مئات المتظاهرين وتشويه الآلاف منهم على أيدي قوات الأمن والميليشيات، أو حتى الكشف عن مصير المختفين وأماكنهم.
فقد تعرض شبان شاركوا في تظاهرات تشرين للقتل والإصابة والاختفاء القسري لمجرد تعبيرهم عن آرائهم. وقد أعلنت الحكومات المتعاقبة عن تشكيل العديد من اللجان التحقيقية للنظر في الجرائم التي ارتُكبت خلال تظاهرات تشرين وما تلاها، ولكنها لم تنشر أي نتائج إلى العلن حتى اليوم. وعلى الرغم من رفع ما لا يقل عن 2,700 قضية جنائية، لم يمثُل أمام المحكمة سوى عدد قليل من الأفراد، ولم تتحقق أي عدالة تُذكر، حيث أُلغيت العديد من الأحكام.
بعد مرور ست سنوات، آن الأوان للسلطات العراقية كي تكسر هذه الحلقة المفرغة من الإفلات من العقاب.
رازاو صاليي، منظمة العفو الدولية
تتفاقم اليوم حالة الإفلات الواسعة من العقاب على الانتهاكات التي ارتُكبت خلال الاحتجاجات، بسبب القمع المتزايد للحيِّز المدني، وذلك مع تشديد القيود المفروضة على حريتَي التعبير والتجمع السلمي. ومنذ 2019، عانى الشباب المشاركون في الاحتجاجات من النفي، والإعاقة، وخسارة الوظائف، والقمع المستمر بلا هوادة.
وقد شنّت قوات الأمن والميليشيات ما وصفه كثيرون بـ “الحملة الانتقامية” ضد النشطاء، ما أجبر العشرات منهم على الاختباء، أو الهروب للمنفى، فيما زُجّ بآخرين في السجون. وتواصل السلطات مداهمة منازل النشطاء بدون مذكرات، وغالبًا ما تلجأ للعنف وتعرّض أفراد عائلاتهم للمضايقات. في الوقت ذاته، تزداد الهجمات على حرية التعبير سوءًا، إذ شهد العام الحالي العشرات من الاعتقالات في إطار حملة وزارة الداخلية ضد “المحتوى الهابط”.
وقالت رازاو صاليي، الباحثة المعنية بشؤون العراق في منظمة العفو الدولية: “من المشين أنه بعد ست سنوات على تظاهرات تشرين، لا تزال السلطات العراقية منشغلة بملاحقة وترهيب النشطاء وعائلاتهم، في حين يظل المسؤولون عن جرائم القتل المروعة، والاغتيالات، وحالات الاختفاء القسري طلقاء. ويبدّد هذا أي أمل في تحقيق العدالة، وكشف الحقيقة، وتقديم التعويضات عن الجرائم المشمولة بالقانون الدولي التي ارتكبتها قوات الأمن والميليشات التابعة لها خلال تظاهرات تشرين وفي أعقابها.
تتعرض حرية التعبير للاعتداء من جميع الجهات. ويخاطر النشطاء والمتظاهرون بحياتهم وحياة عائلاتهم عند التعبير عن آرائهم. على السلطات أن تلبي المطالب التي لطالما تعهدت بها: تحقيق العدالة، ووضع حد لملاحقة وقتل العراقيين الذين يطالبون بحقوقهم الأساسية”.
“كان الأمر كما لو أنهم جاؤوا لاعتقال إرهابي”
قال عدد من النشطاء المختبئين بسبب مذكرات الاعتقال الصادرة بحقهم في مدنهم الأصلية لمنظمة العفو الدولية إنّ قوات الأمن داهمت منازل عائلاتهم مرارًا، وعرّضت أقاربهم للمضايقات، بهدف الضغط عليهم للخروج من أماكن اختبائهم.
وتعلم منظّمة العفو الدوليّة بحالة واحدة على الأقل عاد فيها ناشط كان مختبئًا إلى مدينته على أمل أن يخفف من وتيرة مداهمات قوات الأمن المستمرة لمنزل عائلته. إلا أنه حُكم عليه بالسجن حينها لمدة ستة أشهر بتهم ملفقة تتعلق بالعنف خلال الاحتجاجات، وقد بُرّئت ساحته لاحقًا بعد التوصل إلى تسوية عبر وساطات عشائرية، وهو ما تطلب بالنتيجة دفع رشوة.
وأعرب عدد من النشطاء من بغداد، والناصرية، ومحافظات أخرى شاركوا في الاحتجاجات وأُجبروا على الاختباء خارج مدنهم الأصلية، عن خشيتهم من إرسالهم إلى مناطق وُجّهت فيها اتهامات ضدهم أو ضد آخرين شاركوا في تلك الاحتجاجات.
وفي إحدى الحالات، اعتُقل الناشط ياسين ماجد شهاب، البالغ من العمر 25 عامًا، في 25 سبتمبر/أيلول 2025 بعدما خرج من مكان اختبائه لفترة وجيزة لزيارة والديه المريضَين في بغداد. وكان ياسين قد شارك في تظاهرات تشرين، واستمر منذ ذلك الحين في المشاركة في الاحتجاجات المطالبة بتحقيق العدالة لضحايا القتل والاختفاء القسري، كما وجّه انتقادات للسلطات عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
وقالت عائلته لمنظمة العفو الدولية:
“وصل قرابة الساعة الثامنة مساء الأربعاء [24 سبتمبر/أيلول]. وحوالي الساعة الثالثة فجرًا [25 سبتمبر/أيلول]، وصلت قوة ضخمة مؤلفة من الشرطة المحلية، والمخابرات، وقوات الأمن. كان الأمر كما لو أنهم جاؤوا لاعتقال إرهابي. ركل رجالٌ مسلحون الباب وداهموا المنزل قبل أن يسمحوا للنساء بالتستر. وتلقّت شقيقة ياسين الحامل ضربة على رأسها عندما حاولت حمايته. وضربوا ياسين، وسحبوه للخارج، وهدّدوا باحتجاز المزيد من أفراد العائلة إذا طرحنا أي أسئلة. كانوا يلوّحون بأسلحتهم، ولم يُظهروا أي مذكرة اعتقال. قالوا إنهم سيأخذونه إلى مديرية المخابرات. وفي اليوم التالي ذهبنا إلى المديرية لكنهم قالوا إنه ليس هناك”.
اعتقالات في الناصرية: “إنه انتقام من تظاهرات تشرين”
في الناصرية، في محافظة ذي قار جنوب العراق، يتعرض النشطاء وعائلاتهم لأعمال انتقامية مستمرة، تشمل مداهمات للمنازل، ومضايقات، واعتقالات استنادًا لمذكرات “غير منفّذة”، تحمل بعضها تُهمًا يُعاقب عليها بالإعدام. وشهدت الحملة تصعيدًا ملحوظًا بعد تعيين قائد شرطة جديد في أكتوبر/تشرين الأول 2024.
حيث وصف مدير إحدى المنظمات غير الحكومية المحلية ما حدث بالناصرية بأنه “حملة انتقامية”، مشيرًا إلى أن القائد الجديد أعلن فور تسلّمه المنصب عن عزمه تنفيذ 400 مذكرة اعتقال “غير منفّذة”، كان النشطاء يعتقدون أنها أُسقطت عام 2020.
وتحدثت منظّمة العفو الدوليّة إلى عدد من النشطاء من الناصرية يختبئون حاليًا بسبب مذكرات اعتقال معلّقة صدرت بحقهم في 2020 على خلفية مشاركتهم في احتجاجات في الناصرية.
وأخبر أحد النشطاء المختبئين منظمة العفو الدولية أن قوات الأمن هاجمت منزل عائلته في ديسمبر/كانون الأول 2020، فقال: “أحضروا معهم أعضاء سرايا السلام [وهي فصيل تابع لفصائل الحشد الشعبي] ولم يكن معهم مذكرة اعتقال، ولم يقدّموا حتى سببًا للاعتقال. هذه هي نفسها مذكرات الاعتقال التي يطاردوننا بها الآن [التي لم يظهروها أصلًا آنذاك]. إنه انتقام من تظاهرات تشرين. كنا نطالب بالتغيير، لا بالسلطة السياسية. أردنا عراقًا أفضل يقوم على سيادة القانون… هم [الميليشيات] يقتلون ويُرهبون ويُخفون الناس قسرًا، ومع ذلك نحن من يُتّهم بزعزعة استقرار العراق”.
في إحدى الحالات، بتاريخ 8 مارس/آذار 2025، اعتقلت قوات الأمن ناشطًا في الناصرية. وفي 13 أبريل/نيسان، حُكِم عليه بالسجن لمدة 15 عامًا بموجب قانون العقوبات العراقي، بزعم قتل متظاهر عام 2020. ووفقًا لعائلته ونشطاء تحدثوا لمنظمة العفو الدولية، لُفِّقت إليه التهم، وانتُزعت إفادات الشهود تحت التعذيب. وقالوا إنه اعتُقل على خلفية دوره في تنظيم احتجاجات، بما في ذلك احتجاجات تشرين منذ 2019.
وقال ناشط آخر: “عذّبوه حتى اعترف. وعندما تراجع عن اعترافاته، أطلقوا سراحه. غير أن المدّعين طعنوا في قرار الإفراج عنه، وهو يقضي الآن حكمًا بالسجن لمدة 15 عامًا”.
لم تصل منظّمة العفو الدوليّة إلى أي من وثائق المحكمة المتعلقة بهذه القضية، ولم تقيّمها.
في الشهر ذاته، داهمت قوات الأمن منزل العائلة مجددًا باستخدام الذخيرة الحية والقنابل الدخانية، في محاولة لاعتقال شقيق الناشط الأصغر، ولكنهم احتجزوا والده بدلًا منه. أُفرج عنه بعد أيام، وأفاد بتعرضه للضرب المبرح أثناء استجوابه حول مكان ابنه. وقد اطّلعت منظّمة العفو الدوليّة على صور تُظهر كدمات على بطنه ورأسه.
وراجعت المنظمة مذكرة اعتقال أصدرتها الهيئة القضائية في محكمة استئناف ذي قار بحق الشقيق الأصغر بتاريخ 1 يناير/كانون الثاني 2025، ووجّهت فيها للناشط تهمة أنه “تسبب قصدًا” في الإضرار بأملاك مهمة عامة أو مملوكة للدولة بقصد قلب نظام الحكم المقرر بالدستور، بموجب المادة 197 (4) من قانون العقوبات العراقي وهي تهمة يمكن أن تصل عقوبتها للإعدام.
وقال الناشط الذي ما زال مختبئًا: “عائلتي بأكملها بالناصرية في خطر. تحتاج شقيقتي إلى مرافقة من وإلى الجامعة لأننا نستمر في تلقي التهديدات. نحن قلقون من احتمال اختطافها أو إيذائها أو حتى اغتصابها. تعرض والدي للمضايقة والترهيب في مكان عمله. وما زلت مختبئًا وهم [الميليشيات] يراقبوننا. وكل هذا فقط لأن عائلتي وأنا نرفض أن نُشترى. ولأنني عبّرت عن رأيي وشاركت في الاحتجاجات”.
وختمت رازاو صالحي قائلة: “بعد مرور ست سنوات، آن الأوان للسلطات العراقية كي تكسر هذه الحلقة المفرغة من الإفلات من العقاب. يجب عليها أن تضع حدًا لحملتها القمعية على حريتَي التعبير والتجمع السلمي، وأن تعلن عن نتائج التحقيقات التي تقول إنها أجرتها بشأن الانتهاكات المرتكبة في إطار تظاهرات تشرين وما تلاها“.
خلفية
في السنوات الأخيرة، ضيّقت السلطات العراقية الخناق أكثر على الحيِّز المدني. فشنّت وزارة الداخلية حملات اعتقال طالت عشرات صانعي المحتوى على وسائل التواصل الاجتماعي، بذريعة نشر “محتوى هابط”، وأصدرت المحاكم أحكامًا بالسجن أو الغرامة بحق العشرات منهم، استنادًا إلى مواد متفرقة من قانون العقوبات، رغم غياب أي تعريف واضح لماهية “المحتوى” الذي يُعد هابطًا. كما سعى البرلمان لتمرير قوانين تقييدية تمسّ حرية التعبير، والاحتجاج السلمي، ونشاط المنظمات غير الحكومية.