لم تمض أيام قليلة على قرار استبعاد مرشح فائز من سباق الانتخابات بعد الكشف عن تورطه في استغلال أحد معسكرات الحشد الشعبي في محافظة ديالى، لجمع الشباب تحت غطاء "دورات تدريبية" وهمية، قُدمت للمشاركين بوصفها خطوة رسمية نحو التعيين، حتى ايتضح أنها لم تكن أكثر من أداة لحصد الأصوات. هذه الحادثة لم تكن سوى إشارة فتحت الباب أمام سلسلة من وقائع متشابهة انفجرت تباعًا في محافظات مختلفة، في مشهد بدا كأنه نسخة واحدة لأسلوب احتيالي منظم يستغل الحاجة المادية والمعيشية للمواطنين كسلاح انتخابي، الامر الذي يفرض تحركًا قضائيًا عاجلًا قبل المصادقة النهائية على النتائج.
معسكرات تدريب وهمية
في محافظة ديالى، وتحديدًا في خانقين وجلولاء والسعدية، وجد أكثر من خمسمئة شاب أنفسهم يدورون في حلقة وعود وانتظار، بعدما جرى استدراجهم إلى دورات قيل إنها بوابة للتعيين. ومن محافظة ذي قار، جُمِع أكثر من ثلاثمئة شاب داخل معسكر الصويرة بمحافظة واسط، حيث تلقوا تدريبات شكلية والتُقطت لهم صور توثّق "التحاقهم بالدورة"، قبل أن يكتشفوا أنهم كانوا مجرد رقم في لعبة انتخابية. وفي بغداد تكرر الأسلوب ذاته بواجهة مختلفة؛ فقد تم حشد أكثر من ألف ومئتي شاب في دورة مشابهة داخل المعسكر ذاته، بينما تكشف الوثائق والصور أن الموقع نفسه استُخدم خلال أيام قليلة لتنظيم أربع عشرة دورة مماثلة، إلى جانب دورات إضافية في بابل والديوانية، حيث وقع نحو أربعمئة وخمسين شابًا آخرين في المصيدة نفسها.
.. والتشكيليون وقعوا في الفخ
إنّ تلاحق هذه الحوادث خلال فترة قصيرة يؤكد أن الظاهرة ليست حالات فردية ولا اجراءات معزولة، بل نمط انتخابي يتكرر في محافظات متعددة، يعتمد على الظروف نفسها: شباب يعانون من البطالة، مواقع عسكرية يجري توظيفها لإضفاء الشرعية، ووعود رسمية لا تستند إلى أي تعليمات حكومية. والمتورطون في بعض هذه الوقائع حاولوا التهرب من المسؤولية، إلا أن الصور وثّقت حضورهم وهم يوجّهون الشباب ويخاطبونهم، ويمنحونهم الانطباع بأن التعيين مضمون ما داموا ملتزمين بالبرنامج والمرشح.
وبينما كانت هذه الوقائع تتكشف في الجنوب والوسط، انفجرت موجة استياء موازية في العاصمة من قطاع مختلف تمامًا. فخلال الحملة الانتخابية الأخيرة، أطلقت جهة رسمية مبادرة فنية بعنوان "إثراء الفضاء البصري"، ودعت عشرات الفنانين للمشاركة في معرض واسع، مع تأكيدات بأن الجامعات الأهلية ستلتزم بشراء خمسين عملًا فنيًا بقيمة مليون دينار للوحة الواحدة. الفنانون استجابوا بحماس، وأنجزوا أعمالًا جديدة، ودفعوا تكاليف الإنتاج والتأطير والنقل استنادًا إلى وعد بأن عملية البيع مؤكدة. إلا أنهم فوجئوا قبل أيام ببلاغ عاجل يطلب منهم الحضور فورًا لاستلام أعمالهم، لأن "ولا لوحة واحدة بيعت"، وان القاعات يجب إخلاؤها فورًا.
استهلاك انتخابي
هذه السلسلة من الوقائع، من معسكرات التدريب الوهمية إلى معرض الفن المخدوع، تكشف أن الخطاب السياسي خلال الأسابيع الأخيرة تحوّل إلى سيل من الوعود الوهمية المعدّة للاستهلاك الانتخابي، حيث جرى استغلال الشباب والفنانين والفئات الأكثر حاجة لغايات انتخابية ثم التخلي عنهم فور انتهاء التصويت.
وفي ذروة هذه الصورة القاتمة، يظهر ما كشفه الكاتب والصحفي صائب خليل ليضع العملية الانتخابية برمتها أمام سؤال أخطر: هل كانت نتائج هذه الانتخابات معبّرة عن إرادة الناخبين فعلًا، أم أن سرية الاقتراع نفسها كانت منتهكة منذ اللحظة الأولى؟
وفقًا لسرد خليل، تبدأ الثغرة منذ لحظة دخول الناخب إلى المحطة، حين يقوم الجهاز الإلكتروني الأول بتسجيل هويته وبصماته بشكل كامل، ثم يمنحه ورقة اقتراع تحمل رقمًا خاصًا على شكل QR code. هنا يبدأ الخرق الأول دون علم الناخب، إذ يحتفظ الجهاز بجدول يربط اسم كل ناخب بالرقم الفريد لورقته.
وعندما يعود الناخب لإدخال ورقته في جهاز العد الإلكتروني، يسجل الجهاز الثاني رقم البطاقة نفسها وخياره الانتخابي. وهكذا يتكوّن جدولان منفصلان: الأول يربط الناخب برقم البطاقة، والثاني يربط البطاقة بخياره السياسي. وعند دمج الجدولين –وهو أمر سهل تقنيًا– تصبح هوية كل ناخب ومرشحه المفضل مكشوفة بالكامل، في تحوّل خطير من "اقتراع سري" إلى "اقتراع مكشوف للجميع".
ولأن هذه البيانات قابلة للاسترجاع في أي وقت، يرى خليل أن ما جرى يمثل انتهاكا للدستور لا خللًا تقنيًا، خاصة أن المادة الخامسة تؤكد أن الاقتراع يجب أن يكون سريًا. والأخطر كما يشير خليل بأن المؤسسة تعرف بهذه الثغرة منذ الانتخابات السابقة، وأن الحل الذي اتخذته – فصل كابل LAN قبل إرسال النتائج – لا يغير شيئًا لأن البيانات تكون قد خُزّنت مسبقًا.
ويمضي خليل ليحذر من العواقب الأخطر: فامتلاك خريطة كاملة لخيارات ملايين الناخبين يمكن استخدامه للابتزاز السياسي، أو فرز الخصوم من الحلفاء، أو معاقبة موظفين وعسكريين على اختياراتهم، ما يعني إمكانية تحويل العملية الانتخابية من أداة ديمقراطية إلى وسيلة لترهيب الناخبين والسيطرة عليهم.
ضرورة تحرّك القضاء
كل ما سبق، من استغلال الشباب والفنانين مرورًا بتهديد اركان الاقتراع السري، يفرض مسؤولية مباشرة على القضاء العراقي؛ فالقضية لم تعد مرتبطة بخروقات انتخابية تقليدية، بل بنمط واسع من الاحتيال واستغلال النفوذ، إضافة إلى تهديد جوهر العملية الديمقراطية ذاتها عبر خرق سرية التصويت.
لذلك، فإن فتح تحقيق قضائي شامل ومستقل بات ضرورة وطنية، ولا يمكن الاكتفاء بالنظر الطعون الانتخابية التي تتعامل مع النتائج فقط، بينما تكشف الوقائع أن الخلل يمسّ بنية العملية الانتخابية، وآليات تسجيل الناخبين، ووسائل التصويت، وأشكال الاستغلال السياسي التي رافقت الحملات.
فالثقة العامة لن تُستعاد إلا عبر تحقيق شفاف يبحث في الجهات التي نظمت دورات الشباب الوهمية، والأطراف التي استخدمت المعسكرات العسكرية لأغراض انتخابية، والجهات التي أوهمت بالفنانين عبر وعود مزيفة.
هذا الأمر يتطلب، قبل الشروع بعملية المصادقة النهائية على نتائج الانتخابات، تحقيقا قضائيا شاملا، وكشف الخروقات التي تأسست عليها النتائج، ومحاسبة مرتكبيها ومن دعمهم وسهل عليهم عملية الخداع، وحرمانه مستقبلا من الاشتراك بالفعاليات السياسية والانتخابية، وهذه الإجراءات هي لحماية الانتخابات وصدقيتها وشفافيتها، واذا ما مرّت دون محاسبة شديدة ستعاد سلسلة الخروقات هذه المرة وتتعاظم أكثر، وقد تكون هي السياق الطبيعي للاستحقاقات الانتخابية المقبلة.
مطالبات بتحرك قضائي عاجل
وفي هذا الشأن، أكد الخبير القانوني سيف السعدي وجود مؤشرات خطيرة على أكثر من شخصية فائزة في الانتخابات، مشيراً إلى أن ما يتداول عبر مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام من حديث عن الرشى والخداع والتضليل يستدعي تحركاً قضائياً عاجلاً.
وقال السعدي في حديث لـ"طريق الشعب"، إن “دور الادعاء العام مهم وحاسم لأنه على تماس مباشر مع المواطنين، وكان ينبغي أن يتحرك لملاحقة مثل هذه الحالات التي تسيء إلى المؤسسة التشريعية وتضرب سمعة الدولة، خصوصاً عندما تظهر ملفات فساد بعد المصادقة على النتائج النهائية”.
وحذّر السعدي من أن ترك هذه الخروقات تمرّ من دون تحقيق أو محاسبة “يضعف ثقة المواطن بالعملية الانتخابية ويشوّه المسار الديمقراطي”، مؤكداً أن استمرار مثل هذه الفضائح بلا إجراءات رادعة سيؤدي إلى ارتفاع معدلات العزوف عن المشاركة في الانتخابات المقبلة.
خروقات تعدم الثقة العامة
من جانبه، شدّد القاضي وائل عبد اللطيف على ضرورة فتح تحقيق قضائي عاجل بشأن الخروقات التي رُصِدت خلال العملية الانتخابية، معتبراً أن تلك التجاوزات تمثل عامل تهديد مباشر لثقة المواطن بجدوى الانتخابات ونزاهتها.
ولفت في حديثه مع "طريق الشعب"، الى إن “أي خرق يُسجَّل ويثير الشكوك لدى المواطنين يجب أن يُحال فوراً إلى الجهات القضائية المختصة، وعلى الادعاء العام أن يحيل هذه الملفات إلى قضاة التحقيق لاتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة ومعاقبة من يثبت تورطه وفق القانون، لأن ما حصل يُعد جريمة تمسّ إرادة الناخب وحقه الدستوري”.
وأضاف أن “القضاء هو صمّام الأمان، ومن واجبه منع تكرار مثل هذه الانتهاكات، خصوصاً في ظل تدنّي مستوى الثقة الشعبية بالعملية الانتخابية أساساً”.
وأكد أن “المخرجات التي ظهرت بهذه الصورة المقلقة تزيد من الفجوة بين المواطن والعملية الديمقراطية، وكان من غير الملائم المضي بالمصادقة على النتائج في ظل هذه الظروف قبل حسم جميع الشكاوى والطعون”.
وحذّر عبد اللطيف من أن التغاضي عن هذه الخروقات سيُفاقم أزمة الثقة العامة، ويؤثر سلباً على المشاركة في أي استحقاقات انتخابية مقبلة، داعياً إلى “تعامل قضائي صارم وشفاف يحفظ هيبة الدولة ويصون صوت الناخب".