أحيا المحتجون يوم امس، الذكرى السنوية السادسة لانتفاضة تشرين، التي اندلعت في الأول من تشرين الأول 2019، لتصبح واحدة من أبرز اللحظات الفارقة في تاريخ العراق الحديث.
فقد خرج خلالها آلاف وآلاف الشباب والمواطنين الآخرين إلى الشوارع والساحات في مختلف المدن، مطالبين بحقهم في وطن يسوده القانون والمواطنة والعدالة الاجتماعية، رافضين الفساد والمحاصصة الطائفية والسياسية التي أنهكت البلاد لعقود.
ومثلت تلك الانتفاضة لحظة استثنائية في وعي الشعب العراقي، إذ عبّر المنتفضون عن غضب تراكم عبر سنوات من الخذلان والفشل الحكومي، حتى تحوّل هذا الحراك الشعبي إلى منصة لرفض الانقسامات الطائفية والفئوية، ورفع وعي المواطن بأهمية المشاركة السياسية ومحاسبة الفاسدين.
جيل سياسي يحمل مشروع التغيير
يقول الناشط زين العابدين البصري، ان انتفاضة تشرين، كانت صوتاً صريحاً لمواطن تمرد على سلطة أنهكت البلاد.
ويضيف أن الغضب في تلك اللحظة لم يكن لحظة عابرة، وإنما حراك طويل الأمد، غريب في طابعه، أصيل في جوهره، حتى استحق وصفاً تشريعياً خاصاً، مبينا أن شباب تشرين رفعوا شعارات خالدة مثل: و“أريد وطن” و“نازل آخذ حقي” لتصبح أيقونات دالة على يقظة شعبية كسرت الصمت ورسمت ملامح وعي جديد.
ويبيّن البصري في حديث لـ"طريق الشعب"، أن الحراك في قلب الساحات لم يكن مجرد صراع سياسي، ولا نبالغ حين نصفه بانه ثورة حياة بكل تفاصيلها، حيث تجلت فيه الهويات المتعددة، وسقطت الكراهية لتحل محلها الفنون والشعر والأدب والمسرح والأناشيد.
ويؤكد أن شباب تشرين أعلنوا أن الحرية هي اسلوب حياة، وليست مجرد مطلب، وان الوطن يعني كرامة وسيادة وتحررا من التبعية، ورفضا للتدخلات الخارجية لا شعارات جوفاء.
ويشير إلى أن المحتجين واجهوا السلاح المنفلت بصدورهم العارية، ووقفوا بوجه الفاسدين من دون مهادنة، فيما عرّوا السلطة التي حاولت أن تبث السموم في جسد الحراك عبر عصابات مدعومة نصبت خيامًا للمخدرات والسلب والنهب والإتاوات، لافتا إلى أن هؤلاء لم يكونوا من رحم تشرين، وانما زُرعوا لتشويه صورته بعد أن سلب الحراك الشرعية الاجتماعية من قوى الفساد، وحطم قداستها وزلزل عروشها.
وينبه البصري الى أن القوى السياسية تصورت أن حراك تشرين قد وُئد، لكن الدماء الزكية والتضحيات العظيمة أبقت جذوته متقدة، وبعد ستة أعوام ما زال كابوسه يطارد الفاسدين ويهدد عروشهم، في وقت يحاولون فيه شيطنته لأنه نادى بما يخشونه: وطن حر، ديمقراطية حقيقية، مؤسسات رصينة بعيدة عن الفساد، ورفض قاطع للمحاصصة والسلاح الذي ينهب ثروات العراقيين ويكمم مستقبلهم.
ويراهن على أن صوت تشرين ما زال عالياً اليوم، ينادي بحرية لا تُساوَم، وديمقراطية يدافع عنها الناس بلا خوف، بعدما تحطمت أمامه كل التابوهات.
واختتم البصري بالقول: “ما هو آتٍ سيكون أشد وقعاً، لأن جيل تشرين بات جيلاً سياسياً و يحمل مشروع التغيير، ويتجه نحو السلطة ليطيح بطبقة عاثت فساداً وأذلت العراقيين، ويعيد العراق لأهله، وطناً حراً كريماً".
الظروف مهيأة لانتفاضة أخرى
من جهته، قال الناشط فرات علي، إن تشرين تمثل حدثاً فارقاً في التاريخ العراقي الحديث، لأنها عبرت بوضوح عن أزمة بنيوية في جوهر نظام ما بعد 2003، الذي تأسس على تقسيم طائفي فئوي هيمنت فيه الهويات الفرعية وانطمست الهوية الوطنية الجامعة، فيما تفشى الفساد وغابت العدالة في توزيع الثروات.
وأضاف أن هتاف الشباب في الأول من تشرين “نريد وطن” كان الشعار الأصدق الذي عبّر عمّا كان كامناً في لا وعي الجماهير، حيث غياب ملامح الوطن الجامع الذي تسوده قيم المواطنة والعدالة وسيادة القانون والعيش الكريم من دون تمييز أو تقسيم مذهبي وطائفي، مع حفظ كرامة جميع أفراده.
وتابع علي، أن لحظة تشرين جسّدت فشل النظام السياسي في استيعاب الحركة الاحتجاجية ومطالبها الحقة التي ما زالت قائمة حتى اليوم.
واكد انه مع كل ذكرى لهذه الانتفاضة العظيمة تتجدد المطالب بمحاربة الفساد، ومحاسبة قتلة المتظاهرين، وضمان حق العيش الكريم، ورفض نظام المحاصصة المقيت.
وختم بالقول: “ما لم تتحقق هذه المطالب، فإن ولادة تشرين ثانية تبدو حتمية، عاجلاً أم آجلاً، لأن جذور الأزمة لم تُعالج بعد، ولأن صوت الشارع سيبقى أقوى من محاولات طمسه أو احتوائه”.
مطالبها ما زالت شاخصة
الناشط أحمد الطائي اكد ان إحياء الذكرى السنوية السادسة لانتفاضة تشرين يمثل واجباً وطنياً وأخلاقياً تجاه دماء الشهداء وتضحيات الشباب الذين خرجوا مطالبين بالإصلاح والتغيير.
وشدد الطائي على أن تشرين لم تكن حدثاً عابراً، ويمكن القول انه محطة مفصلية أعادت رسم الوعي الشعبي ورسخت مفهوم المطالبة بالحقوق والعدالة والاحتجاج.
وانتقد الطائي ما وصفه بـ”النهج الدكتاتوري” للحكومة الحالية، مشيراً إلى أنها تمارس التضييق على النشاط الاحتجاجي وتفرض قيوداً واسعة على الحريات العامة، في محاولة لطمس روح تشرين وإجهاض أي حراك جماهيري قد يطالب بالحقوق.
وخلص الى القول أن محاولات القمع لا يمكن أن تلغي حقيقة أن مطالب تشرين ما زالت حاضرة في الشارع، وأن جذوة الاحتجاج ستبقى متقدة حتى تحقيق التغيير المنشود.
مطالب التغيير لم تمُت
من جانبه، قال الناشط السياسي مرتجى إبراهيم إن ذكرى انتفاضة تشرين السادسة، تحل بينما لا تزال الأزمات التي ادت لاندلاعها قائمة، وتفاقمت اكثر، وزاد الوضع بشكل سوءا.
وأوضح إبراهيم، ان هذا الحدث الشعبي والجماهيري الكبير، شكل انعطافة سياسية مهمة، كشفت عجز النظام السياسي عن الاستجابة لمطالب الناس، وعمقت الهوة بينهم وبين الشعب.
وتابع قائلاً، أن تشرين جسّدت إرادة شعبية عابرة للطوائف والمكونات، ورفعت شعار (الوطن أولاً) في مواجهة منظومة الفساد والمحاصصة، التي أنهكت الدولة وأفقرت المجتمع.
وأشار إبراهيم إلى أن قمع الحريات ومنع أي نشاط احتجاجي سلمي من قبل الحكومة الحالية يؤكد أن العقلية الحاكمة ما زالت أسيرة منطق القوة واحتكار القرار، وهو ما يعيد إلى الأذهان ممارسات الأنظمة الاستبدادية التي سقطت تحت ضغط الشارع.
وأضاف أن التظاهر السلمي وحرية التعبير مكفولة دستورياً، لكن السلطة تعمل على تعطيلها عبر الترهيب والملاحقات، ما يعني أن الفجوة بين السلطة والمجتمع في اتساع مستمر.
وختم إبراهيم حديثه بالقول إن إحياء تشرين اليوم يحمل رسالة سياسية واضحة، مفادها أن العراقيين لم ينسوا شهداءهم ولا مطالبهم في العدالة والكرامة والعيش الكريم، وأن أي محاولة لإخماد صوت الشارع لن تنجح، لأن جذور الأزمة السياسية ما زالت قائمة ولم تعالج حتى الآن.
أين نتائج التحقيقات؟
الى ذلك، قالت الناشطة مآب عامر إن الذكرى السنوية السادسة لتظاهرات تشرين تعيد إلى الأذهان توصيات الجهات الحكومية المتكررة بتسريع عمل لجان التحقيق للكشف عن الانتهاكات التي رافقت الاحتجاجات الشعبية في تشرين الأول 2019، والتي أسفرت عن سقوط مئات الضحايا بين قتيل ومعتقل وجريح، داعية إلى إعلان النتائج بشفافية أمام الرأي العام.
وأكدت أنه حتى الآن لم يتحقق شيء من ذلك، الأمر الذي يعزز قناعة الشباب بأن “الحال لم يتغير ولن يتغير”.
وأشارت عامر إلى أن غياب العدالة وضياع الحقوق الإنسانية وتزايد الانتهاكات، إضافة إلى تردي الخدمات وتفاقم أزمة فرص العمل وارتفاع الأسعار، كلها عوامل دفعت غالبية المواطنين، ولا سيما الشباب، إلى الاستياء من عجزهم عن تأمين متطلبات الحياة الكريمة.
وبيّنت أن الكثير من الشباب باتوا يعتقدون أن الإصلاح أصبح بعيد المنال، وأنهم عالقون في “دوامة لا تنتهي من الانتظار”.
ولفتت الى ان الشهادات الجامعية لم تعد ذات قيمة حقيقية في ظل اضطرار الخريجين لدفع مبالغ مالية طائلة، قد تصل إلى آلاف الدولارات، من أجل فرصة عمل حكومية لا تتحقق غالباً إلا عبر جهات متنفذة تسعى وراء المكاسب الخاصة بعيداً عن حقوق المواطن البسيط.
ولفتت في سياق حديثها إلى أن بعض الشباب ينظر إلى الانتخابات البرلمانية المقبلة باعتبارها “الفرصة الحقيقية للتغيير”، بينما يرى آخرون أن الأوضاع لن تتبدل ما دامت مفاصل الدولة ومقدراتها محتكرة بالوتيرة ذاتها.
واستدركت بالقول إن الأمل لم يغِب، وإنما ينتعش مع كل ذكرى لتشرين، حيث يبذل العديد من الشباب والشابات جهوداً في حث الآخرين على الاستمرار بالمطالبة بالإصلاح والتغيير، فيما يعمل غيرهم على بث روح الأمل والتوعية للمشاركة في الانتخابات المقبلة باعتبارها وسيلة للتغيير عبر صناديق الاقتراع.
ذكرى ثقيلة على من حاول وأدها
الى ذلك، قالت الناشطة آمنة حامد إن تشرين شكّلت لحظة فارقة في تاريخ العراق الحديث، حيث خرج الشباب إلى الساحات بصدور عارية وأصوات تهتف بكلمة واحدة: “نريد وطن”.
وأضافت أن هذا الشعار كان تجسيدًا لحلم بالعدالة، والحرية، وبلد يُحكم بالمعايير الوطنية بعيداً عن الطائفية وتقاسم الأحزاب للسلطة كغنيمة.
وأكدت أن تشرين كانت صرخة لشباب محروم، وتراكمت عبر سنوات من القهر والخذلان، لتتحول إلى موقف أخلاقي واجتماعي وسياسي جريء.
وأشارت إلى أن السلطة اكتشفت في تلك اللحظات أن من كانت تعتقد انه جمهورها، الذي كانت تراهن على صمته وخضوعه، هو نفسه الذي نزل يواجه الرصاص وقنابل الغاز، في مشهد جعل من تشرين كاشفاً للطبقة السياسية وهشاشتها أمام إرادة الشعب.
وزادت بالقول أنه ورغم كل الممارسات، لم تُطفأ تشرين رغم محاولات القمع، وما تزال ذاكرة حية تحضر كلما أرادت السلطة نسيان أن أقوى لحظة تهديد لها جاءت من أبنائها، من جمهورها الأكبر، ومن الذين رفضوا الطائفية والانقسام.
واختتمت قائلة: “في تشرين شعرنا لأول مرة أننا وطن واحد، أن ما يجمعنا أكبر من كل ما فرقونا به. لقد حضن الشباب الموت، فقط ليحضنوا الوطن، مشيرة الى ان تشرين ستبقى علامة فارقة، وذكرى ثقيلة على من حاولوا وأدها، وعزيزة على من عاشها وشارك بها وقال لا.
حراك مستمر وان تراجع زخمه
وعلى صعيد ذي صلة، قال الناشط أحمد سعد إن انتفاضة تشرين السادسة كانت اختباراً حقيقياً لنضج النظام السياسي العراقي وقدرته على الاستجابة لمطالب شعبه المشروعة، مشيراً إلى أن الاحتجاجات كشفت فشل المنظومة الحاكمة في بناء الدولة وفق أسس العدالة والمواطنة.
وأضاف أن استمرار احتكار السلطة والمقدرات من قبل أحزاب متنفذة وعدم وجود آليات واضحة لمحاسبة الفاسدين يزيد من إحباط الشباب ويعزز شعورهم باللامبالاة تجاه العملية السياسية الرسمية.
لكنه شدد على أن الحراك الشعبي سيظل قوة ضاغطة لا يمكن تجاهلها، وان كان يشهد تراجعا في زخمه ومطالبه السياسية حالياً، وأن أي إصلاح حقيقي يجب أن يبدأ بالاستجابة لمطالب المحتجين ومحاسبة المسؤولين عن الفساد والانتهاكات، لضمان ولادة عراق جديد قائم على القانون والمساواة. وأشار سعد إلى أن تشرين أثبتت أن الشعب لم يعد يقبل بالمظاهر والشعارات الفارغة، وأنه يطالب بتغيير جذري في منظومة الحكم، بما يشمل إعادة توزيع السلطات بشكل يضمن شفافية العمل السياسي ووقف الاحتكار الطائفي والفئوي للسلطة.
ولفت إلى أن الاحتجاجات أظهرت أهمية دور الشباب في إعادة صياغة المشهد السياسي، لأنهم الجيل القادر على مقاومة الفساد والمطالبة بالعدالة الاجتماعية، مؤكداً أن أي تجاهل لمطالبهم يعني استمرار الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يعاني منها العراق منذ سنوات طويلة.
واختتم سعد بالقول ان رسالة تشرين كانت بسيطة وواضحة وصريحة "الشعب لن يصمت بعد الآن"، وأن أي حكومة ترغب في البقاء يجب أن تتجاوب مع مطالبه، وإلا فإن الحراك الشعبي سيعود وبشكل اكثر قوة لا يمكن كسرها أو احتواؤها.
الشباب هم ضمانة التغيير
من جهته، اكد سجاد محمود أن تشرين كانت بداية عملية تحوّل سياسي في وعي الشعب العراقي، حيث أدرك المواطن أن مطالب العدالة والحرية لا تتحقق إلا عبر ضغط مستمر على النظام السياسي، لا الاكتفاء بالوعود الرسمية أو الإجراءات الشكلية.
وأوضح محمود، أن الحكومة الحالية فشلت في تحقيق أي إنجاز ملموس فيما يخص الإصلاح، وأن استمرار النهج التقليدي في إدارة الدولة، القائم على المحاصصة والولاءات الفئوية، سيؤدي حتمًا إلى مزيد من الاحتقان الشعبي وإضعاف ثقة المواطن بمؤسسات الدولة.
وأشار إلى أن الشباب هم الضمانة الحقيقية للتغيير، فهم الجيل الذي شهد القمع والملاحقات والقتل أثناء الاحتجاجات، ومع ذلك لم يتراجع، بل أصبحوا أكثر وعياً وإدراكاً بأهمية المشاركة السياسية والمطالبة بالحقوق المشروعة.
وأكد أن أي محاولة لتقويض حراكهم أو تهميش أصواتهم لن تمنع العراق من السير نحو الديمقراطية الحقيقية، مبيناً أن الانتخابات القادمة تمثل اختباراً حقيقياً، قد يعاقب الشعب فيها هذه الطبقة السياسية، واختباراً لها، ان كانت ستستمر في نفس السياسات التقليدية التي أعادت إنتاج الأزمات نفسها.
وخلص الى القول "ستبقى تشرين تجربة تعليمية لكل الشباب، فقد علمتنا أن المشاركة والمراقبة والمحاسبة هي الطريق الوحيد لبناء دولة عادلة، وأن أي إصلاح حقيقي لن يأتي إلا من خلال الضغط المستمر والمطالبة بحقوقنا المشروعة في كل الساحات والميادين".