في ظل أزمات مالية وسياسية متشابكة، لجأت الحكومة، خلال السنتين الأخيرتين إلى خيار مشاريع الدفع بالآجل لتعويض غياب التخصيصات الاستثمارية الفعلية في الموازنة الثلاثية (2023–2025). ورغم أن هذا الخيار يُطرح على أنه “حل اضطراري” لتجاوز العجز المالي، إلا أن خبراء الاقتصاد يحذرون من تداعياته الخطيرة على المدى البعيد، سواء من حيث تراكم الديون غير المعلنة أو تعميق هشاشة الاقتصاد الوطني.
احتمالية اللجوء الى الدفع بالنفط
ويصف الخبير الاقتصادي عبد الرحمن الشيخلي، مشاريع الدفع بالآجل التي تتبناها الحكومة في الوقت الراهن بأنها “شرٌّ لا بدّ منه”، مشيراً إلى أن الموازنة الثلاثية للأعوام 2023 و2024 و2025، تضمنت جداول مالية لم تشمل أية تخصيصات استثمارية فعلية حتى الآن.
ويقول الشيخلي لـ"طريق الشعب"، إنّ وزارة المالية أعدت الجداول المالية ورفعتها إلى مجلس الوزراء، إلا أن الأخير لم يرسلها إلى البرلمان لاعتمادها، خوفاً من التداعيات السياسية مع اقتراب الانتخابات القادمة.
ويضيف أن الحكومة اعتمدت في الوقت الراهن على نفس النسب المالية للسنوات السابقة 2023 و2024، ما أدى إلى غياب أي تخصيصات استثمارية جديدة خلال السنوات الثلاث الماضية، موضحا أن الوضع الحالي "سيتيح للحكومة المقبلة إعادة النظر في المشاريع الاستثمارية بعد انتهاء الانتخابات وتوضيح السياسات الحكومية الجديدة".
ويشير إلى أنه من المحتمل ان تكون هناك اتفاقات مع هذه الشركات، على اليات اخرى للدفع، بدل العملات النقدية، مثل منح النفط وفق اتفاقات خارج حصة العراق في منظمة أوبك.
سياسة محفوفة بالمخاطر
من جانبه، قال الخبير الاقتصادي صالح الهماشي أن اعتماد الحكومة على مشاريع الدفع بالآجل في ظل غياب تخصيصات استثمارية فعلية يمثل “خياراً اضطرارياً لكنه محفوف بالمخاطر”، مؤكداً أن هذه السياسة قد يكون لها آثار وخيمة على الاقتصاد الوطني.
واضاف الهماشي حديث مع "طريق الشعب"، أن الدفع بالأجل "يُعد محاولة حكومية لتخفيف الضغط على الموازنة، لكنها في الوقت نفسه تخلق التزامات مالية مستقبلية غير واضحة"، منبهاً الى ان هذه الالتزامات "قد تُثقل كاهل الاقتصاد الوطني وتزيد من صعوبة إدارة السيولة المالية".
وحذر الهماشي من أن "استمرار هذه السياسة أكثر من سنتين، كما حدث مع مشاريع 2023 و2024، قد يؤدي إلى تراكم الالتزامات على الحكومات المقبلة، ما يحد من قدرتها على تنفيذ مشاريع تنموية جديدة ويزيد من المخاطر التضخمية على المدى الطويل".
كما أشار إلى أن الدفع بالآجل قد يضعف فاعلية استثمارات القطاع الخاص، إذ يصبح من الصعب على المستثمرين التخطيط لمشاريعهم المستقبلية مع غياب وضوح في الجدولة المالية للدولة.
وأكد أن هذه السياسات تتطلب إشرافاً ومتابعة دقيقة لتقليل فرص الفساد المالي أو إساءة استخدام الموارد، خاصة في المشاريع التي تُدار من قبل القطاع الخاص أو تُنفذ عبر عقود مباشرة.
وشدد على أن "توزيع الموارد بشكل مدروس، مع مراعاة أكثر من قناة للاستثمار والتمويل، تمثل طرقا ضرورية للحد من المخاطر المحتملة وحماية الاقتصاد من الضغوط المفاجئة".
وحذر في ختام حديثه من "مغبة تحويل هذا النهج إلى سياسة دائمة"، داعياً إلى "وضع خطط واضحة لتنفيذ المشاريع الاستثمارية الحقيقية فور انتهاء الأزمات السياسية والاقتصادية الحالية، لضمان استدامة النمو الاقتصادي وتعزيز الثقة في قدرات الدولة المالية والإدارية".
غياب الرؤية الاستراتيجية
كذلك انتقد المراقب للشأن الاقتصادي علي صالح سياسة الاعتماد على مشاريع الدفع بالآجل، واصفاً إياها بأنها "حل مؤقت، لكنه قد يحمل تبعات خطيرة على الاقتصاد الوطني إذا استمر دون ضوابط واضحة".
وقال صالح في حديث لـ"طريق الشعب"، إن غياب التخصيصات الاستثمارية الفعلية في الموازنة الثلاثية يعكس نقص الرؤية الاستراتيجية للحكومة، ويحوّل المشاريع الحكومية إلى آلية لتفادي الأزمة الحالية، بدلًا من أن تكون أدوات للنمو والتنمية".
وأضاف أن "استمرار هذه السياسة يخلق ديوناً خفية على الموازنات المستقبلية، وقد يضغط على الحكومات المقبلة لإعادة ترتيب أولوياتها بشكل قد يقضي على مشاريع تنموية هامة".
وحذر أيضا من أن الدفع بالآجل، رغم كونه وسيلة لتخفيف الضغط على السيولة الحالية، لكنه قد يؤدي إلى آثار سلبية متعددة: بداية من تراكم الالتزامات المالية، مروراً بإضعاف ثقة المستثمرين المحليين والأجانب، ووصولًا إلى تزايد المخاطر التضخمية التي قد تصيب الاقتصاد.
وأوضح أن المشاريع المدفوعة بالآجل، خاصة تلك التي تُدار عن طريق القطاع الخاص، معرضة بشكل أكبر لمخاطر الفساد أو سوء إدارة الموارد إذا لم يتم وضع ضوابط صارمة، مشددًا على ضرورة أن تعكس الموازنات المستقبلية رؤية واضحة لإطلاق مشاريع استثمارية حقيقية، تدعم النمو وتخفف من تبعات الأزمة المالية الحالية.
وخلص الى القول ان "الأزمة الحالية لا يجب أن تتحول إلى ذريعة لتجميد التنمية، وإلا فإننا سنجد أنفسنا بعد سنوات أمام واقع اقتصادي أضعف وأكثر هشاشة”.
من جانب اخر، أكد عضو اللجنة المالية النيابية، مصطفى الكرعاوي، أن الخزينة العامة للبلاد فقدت الرصيد المدور واصبح موضوع صرف رواتب موظفي الدولة أصبح مرهونًا بوصول الإيرادات الشهرية، إضافة الى توقف عمل اغلب المشاريع، مشيرًا إلى أن هذا الوضع أدى إلى هشاشة مالية انعكست على عمل مؤسسات الدولة.
وأوضح الكرعاوي، أن العراق واجه عجزًا ماليًا كبيرًا بلغ 19 تريليون دينار في موازنة 2024، نتيجة الفارق بين الإيرادات المقدرة بـ137 تريليون دينار، والنفقات التي وصلت إلى 156 تريليون دينار.
وبيّن أن الحكومة اضطرت إلى بيع السندات لتغطية هذا العجز، وهو ما يفرض التزامات مالية إضافية مع فوائد تزيد من حجم الأزمة، مؤكدًا أن السيولة النقدية باتت قليلة جدًا.
وأشار إلى أن الأزمة المالية انعكست بشكل مباشر على المشاريع، وأدت إلى شبه تعطيل في عمل أغلب المشاريع.