اخر الاخبار

لم يَعُد هناك مَن يُشكِّكُ بما في العقلِ الجمعيِّ لشعبنا، من جذوةٍ كفاحيةٍ لا تخبو، وينبوعِ عنادٍ لا ينضب. فما أن تمزَّقت ترهاتُ الاستقطابِ الإثنيِّ والطائفيِّ التي كادت أن تحجب وعيَ شبابِنا، حتى بانَ لهم حجمُ الكارثةِ التي حلَّت بالوطن، جوعٌ وبطالةٌ وتفاوتٌ طبقيٌّ وتقليصٌ للخدماتِ الأساسية وتدميرٌ للبنيةِ التحتية، وحتى عايشوا التناقضاتِ الحادة التي أنتجتها الوصفةُ النيوليبرالية لإعادةِ هيكلةِ الاقتصاد، والتي تركزت، بسببها، الثروةُ في أيدي قلةٍ من النُّخَب، ملقيةً بالغالبية في أتونِ تهميشٍ وإملاقٍ شاملين.

وكان بديهيًّا أن يأتي ردُّ فعل الناس قويًّا وحاسمًا، وأن تفشلَ مساحيقُ الديمقراطية التوافقية الفاسدة، في إنقاذِ الطغمةِ الأوليغارشيةِ المُهيمِنة، وأن تلهجَ قلوبُ الجميع بشعارٍ واحد: "نريد وطنًا"، لا كاحتجاجٍ على الفساد وفشل الإدارة فقط، ولا ضد الطائفيةِ السياسية، ولا ضدَّ التفريط بالقرار الوطنيِّ المستقل، ولا ضدَّ الإنهاءِ المُبرمَج لمجانية التعليم والرعاية الصحية، ولا ضدَّ السلاح المنفلت وغياب القانون وانتشار المافيات وتغوُّل البيروقراطيين والشُقاة، ولا فقط لتخليص النساء من العبودية الذكورية والعنف والتمييز، ولا ضدَّ محاصرةِ الرأسمالِ الوطنيِّ بالأتاوات والرشاوى، وخنقِ المنتجِ الوطنيِّ بمنافسةٍ غير عادلة، واستيرادٍ لا حدود له لبضائع دول الجوار فحسب، بل ومن أجل ذلك كله، في انتفاضةٍ باسلةٍ أرادت أن تستعيد الوطن من سارقيه ومخربيه، وتعيده لأبنائه كي يعمروه ويرفعوه إلى المقام الذي يليق بسماته كمهدٍ للحضارة.

كما كان بديهيًّا أيضًا أن تلقى انتفاضةُ تشرين، التي جاءت حلقةً متطورةً أخرى في مسارِ الاحتجاجِ الشعبي، دعمًا شاملاً من كل الوطنيين والديمقراطيين الحقيقيين، وفي مقدمتهم حزبُنا الشيوعيُّ العراقي، الذي شاركت منظماته بفاعليةٍ فيها، وسخّرت طاقاتها وإعلامَها وكلَّ نشاطاتها لمساندتها بكل السبل، وفي الصميمِ منها تقديمُ كوكبةٍ من رفاقِ الحزب وأصدقائه أرواحَهم دفاعًا عنها. وحين أغرقتْها الطغمة الحاكمة بالدم، واظبَ الشيوعيون وكل اليساريين على حماية جذوتها من الخفوت، وصفوفها من التخريب والاختراق، وقلوبِ فتيتها وصباياها من الملل والقنوط، بحيث لم تَعُد تُستذكَر كلَّ عام كمأثرةٍ مضت، بل كفعلٍ متواصل، وإنْ بمستوياتٍ متفاوتة، وحافزٍ لتدريبِ الشبيبة، وإطلاقِ مبادراتهم، والاعتناءِ بهم، والتعلمِ منهم، وإتقانِ فنِّ التعاملِ معهم كثوريين بالغين، مهما كانت مستوياتُ وعيهم، ولمناقشتهم بعمقٍ وشفافيةٍ من أجل تطويرِ الاستراتيجياتِ السياسية والتنظيمية، واستنباطِ آلياتٍ تعبويةٍ معاصرة، تحلُّ محلَّ نماذجَ سادت ثم تقادمت. وإذا كان الرضا عن النفسِ مَقتلَ الثوريين، فإن الشيوعيين، الذين يسعون كلَّ يومٍ ليكونوا أكثرَ يساريةً من اليوم الذي يسبقه، يؤكدون، في المناسباتِ الغاليةِ عليهم، كذكرى انتفاضة تشرين، على تجديدٍ وتطويرٍ دؤوبَين لخطابِهم، و تبني شعاراتٍ دقيقة، تربط بين الأهدافِ الكبرى، كالحرية، والقضاءِ على الاستغلال، وتحقيقِ التوزيعِ المتكافئ للثروة، وبين القضايا اليومية، كتوفيرِ فرصِ العمل، والتعليمِ المجاني، وتخفيضِ تكاليف الرعاية الصحية، وتأمينِ التغذيةِ المدرسية، وتوفيرِ النقل العام، وتنظيمِ الاستهلاكِ والإنتاجِ والتوظيفِ في المجتمع، وحل أزمات الطاقة والسكن وغيرها، وتحريرِ المرأة من القهر والاضطهاد، ونَيلِها المساواةَ وفرصَ التعلمِ والعمل.

وفي مجتمعٍ ينجح فيه اليمينُ في تضليلِ ضحاياه وتعبئتِهم وكسبِ أصواتهم، يواجهُ الشيوعيون مهمةَ تذليلِ كلِّ الصعاب كي لا تبقى الناسَ أسرى لهذا التضليل، وفي مقدمتها تطويرُ الوعيِ الديمقراطيِّ، وقيمِ المواطنة، وتمكينُ المثقفِ العضويِّ من ممارسةِ دوره التنويري، وتشجيعُ التفكيرِ النقدي، ومناهضةُ التطرفِ والتعصُّبِ بكافةِ أشكاله، وتشجيعُ قيمِ التعايشِ والتعدُّدية.

في تشرين من كلِّ عام، نقفُ إجلالًا لمئات الشهداء، ومن عزيمةِ (حيدر القبطان، وعلي نجم، وسلام العامود، وفهد العلياوي، وعلي العصمي، وأياد عباس ورفاقهم) نَقبِسُ ما يُنيرُ دربَ الكفاح لاسترداد الوطن من الفاشلين والحرامية.