اخر الاخبار

في مثل هذا الايام من عام 2020، وبعد عام واحد فقط على انطلاقة انتفاضة تشرين الباسلة، أقدمت السلطة وأجهزتها الأمنية والاستخبارية على جريمة جديدة بحق صوت الشعب. فمنذ ساعات الصباح الأولى، طوّقت قوات الحكومة ساحة التحرير من جميع الاتجاهات، ونشرت معداتها الثقيلة من شفلات ولوريات ورافعات، ليس لمواجهة وباء الفقر أو الفساد، بل لإزالة خيام السلميين، عشّاق العراق، المطالبين بالعدالة الاجتماعية وإنقاذ الفقراء والأيتام من الضياع.

كان المشهد قاسياً: الخيم التي احتضنت نقاشات المثقفين، صيحات الطلبة، تضحيات العمال، وآلام العاطلين، تحوّلت أمام أعين أصحابها إلى ركام. فراش ومناضد وكراسٍ بسيطة، عيادات ميدانية وأجهزة صوتية، وحتى شاشة صغيرة تنقل أخبار الساحات، جرى رفعها ببرودة الآلة الحديدية. وبينما كان المحتجون، ومن بينهم شهود مثل رزاق صاحب، أبو رشا، وأبو جعفر، يتابعون بقلوب مكلومة لحظة انهيار خيمتهم، كان واضحاً أن الهدف الحقيقي من وراء هذا القرار هو وأد الانتفاضة وإنهاء صوتها.

مصطفى الكاظمي، الذي جاء إلى رئاسة الوزراء متعهداً بالاستجابة لمطالب الشباب وتطبيق العدالة، تحوّل في لحظة حاسمة إلى "بطل" عملية التفليش، مانحاً نفسه دور المنفذ المباشر لقرار إسكات تشرين. غير أن ما لم تدركه السلطة هو أن إزالة الخيام لا تعني إلغاء الوعي، وأن تفكيك الساحات لا يعني محو جذوة الثورة.

أثبتت تجربة تشرين أنها ليست نزاعاً طائفياً كما أرادت قوى المحاصصة تصويرها، بل صراع طبقي بامتياز. صراع بين أقلية فاسدة راكمت الثروات عبر نهب النفط والمال العام، وبين أغلبية مسحوقة تبحث عن وطن يوفّر العدالة الاجتماعية والعيش الكريم. شعار "نريد وطن" تحوّل إلى العنوان الأبرز للمرحلة، تعبيراً عن قطيعة مع شرعية الطائفية وولادة شرعية بديلة تستند إلى المواطنة.

رغم محاولات السلطة إخماد صوت ساحات تشرين، فإن المطالب الجوهرية التي رفعتها الجماهير بقيت عصيّة على التحقق. فقد طالب المنتفضون بإلغاء نهج المحاصصة الذي كان ولا يزال أساس البلاء، وبمحاربة الفساد ومحاسبة من أثروا على حساب دماء الفقراء، إضافة إلى إصدار قانون انتخابات عادل يحترم إرادة الناخب بدل سرقة صوته، والاعتماد على مفوضية نزيهة مستقلة من القضاة والكفوئين لا تدين بالولاء إلا للعراق. كما رفعوا مطلب تفعيل مجلس الخدمة وفق معايير النزاهة، وتطبيق قانون الأحزاب وتفعيله، وتحقيق العدالة الاجتماعية في بلد يرزح فيه المواطن تحت البؤس والحرمان. ولم يغفلوا عن معالجة مشكلة البطالة المتفاقمة بين الشباب، ولا عن فضح سرقات النفط في عدد من المحافظات، حيث يتجول اللصوص بلا رادع، في وقت تُرفع فيه المطالب بحصر السلاح بيد الدولة. كل هذه المعاناة المترسخة، وسط عجز الدولة عن تلبية أبسط حقوق الناس، جعلت الولاء للوطن يتجدد في ساحات الاحتجاج، وأكدت أن من يتصور القدرة على إنهاء هذه الحركة الواعية واهم، إذ إن جذور أسبابها لا تزال قائمة وتزداد عمقاً يوماً بعد آخر.

المفارقة أن الحكومة التي سعت إلى "إنهاء الانتفاضة" لم تستطع حتى تأمين رواتب الموظفين حينها، في مشهد يكشف عجزها وفشلها، ويؤكد أنها سلطة فقدت شرعيتها أمام أصحاب التغيير الحقيقي. من يتصور أن بإمكانه دفن الانتفاضة عبر الهدم والتهديد واهم؛ لأن ما زرعته تشرين في وعي العراقيين أعمق من أن يُمحى.

ما جرى في 31 تشرين الأول 2020 لم يكن نهاية لانتفاضة تشرين، بل محطة جديدة في مسارها. فالانتفاضة التي كسرت جدار الخوف وأسقطت أسطورة الطائفية رسّخت وعياً جديداً بالوطن والعدالة. قد تراجعت الخيام تحت ثقل الجرافات، لكن المطالب بقيت حيّة، والجيل الذي خرج في تشرين لم يعد يقبل العودة إلى الوراء.

تشرين إذن، ليست مجرد ذكرى ولا مجرد خيمة أُزيلت، بل مشروع وطن مستمر، وراية رفعها الشهداء والمحتجون بدمائهم وعرقهم، ولن تسقط إلا بسقوط النظام الذي قاومها.