بعد سقوط ضحايا في احتجاجات تشرين، وكذلك من منتسبي القوات الأمنية، ومن ثم تصاعد الغضب الشعبي تجاه أعداد الضحايا الذين كانوا أكثر من مائة حالة وفاة وآلاف المصابين والجرحى وعدة آلاف من المعتقلين، وتصاعد المطالبات الشعبية والمرجعيات الدينية والفعاليات السياسية بما فيها الحكومة، التي هي طرف وجهت له الاتهامات بتسببه بهذا العدد من الضحايا، لاحظنا بأن الحكومة وكذلك مجلس النواب اتجه إلى تشكيل اللجان بمسمى لجان تحقيقية ولجان خدمة ومسميات أخرى، لكن المعني في هذه الأمر هي اللجان التحقيقية التي تبحث عن الجناة الذين تسببوا بحالات وفاة الضحايا وإصابات الجرحى من جراء التصدي لهم في الاحتجاجات المذكورة والإفراط في استعمال القوة والرصاص الحي، وحيث أن جميع المطالب تتمثل في تقديم الجناة إلى العدالة بمحاكمة عادلة وتتم محاسبتهم في ضوء ما ارتكبوا من أفعال وبموجب القانون، لكن وبعد مضي عدة سنوات لم نسمع عن تقديم شخص واحد للعدالة، وان اللجان طوى النسيان تقاريرها، حتى لم نعد نسمع أي احدٍ من المرشحين إلى انتخابات عام 2025 ، او قد أشار إلى هؤلاء الضحايا وكيفية إنصافهم، مع أن بازار الانتخابات عج بالكثير من الوعود والتمنيات الوهمية والكاذبة في اغلبها،
كما لوحظ أن شعارات المرشحين تدور في فلك محاربة الفساد والحال الاقتصادي والمعاشي للمواطن، لكنها تغض الطرف وتصم الاذان عن صوت الضحايا الذي ترجم بدماء سكبت على أرض الاحتجاجات شعارها مكافحة الفساد والمطالبة بالحياة الكريمة، وكان الاحرى بالمرشحين ان يكونوا هم صدى لصوت الضحايا وينادون بإنصافهم عبر تقديم الجناة إلى العدالة ومحاسبتهم، لأن قتل الإنسان مهما كان المبرر هو جريمة لا تغتفر، بل ان الله عز وجل عدها من اكبر الكبائر بقوله تعالى (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا)
وفي حينه أمرت الحكومة بتشكيل لجنة تحقيقية عليا تضم الوزارات المختصة والأجهزة الأمنية وممثلين عن مجلس القضاء الأعلى ومجلس النواب ومفوضية حقوق الإنسان وجاء في حيثيات تشكيلها بأنها تسعى للوصول إلى نتائج موضوعية وأكيدة لإحالة المتسببين إلى القضاء لينالوا جزاءهم العادل، لكن مضت السنون ولم تنجز اللجنة مهمتها ولم يقدم الجناة إلى العدالة، بل أن تشكيل اللجان أضحى من وسائل تسويف الحدث والمسعى إلى الإفلات من العقاب،
وكنت في عام 2022 قد اشرت في مادة نشرتها عبر الصحف الورقية والالكترونية إلى أن تلك اللجان لا قيمة لها فإن ما ستقوم به هذه اللجنة والقرارات التي تتخذها ليس بذات قيمة قانونية يمكن الركون إليها في إدانة الجناة الذين اعتدوا على المحتجين ومنتسبي القوات الأمنية، إن توصلت تلك اللجان إلى أسماء بعينها للأسباب حددتها في حينه وعلى وفق الاتي:
1. إذا ما توصلت اللجنة إلى قرار بإعلان أسماء المشتبه بهم فإنها تبقى ظنونا وشكوكا لا يمكن الوثوق بها، إلا إذا تم فحصها بميزان القانون من قبل القضاء لأنه صاحب السلطة الوحيدة والحصرية في توجيه الاتهام وكذلك في الإدانة وحتى فيما يتعلق بحجز الأشخاص المشتبه بهم وعلى وفق ما جاء في البند (ب) من الفقرة (أولا) من المادة (37) من الدستور النافذ التي جاء فيها الآتي (لا يجوز توقيف أحد أو التحقيق معه إلا بموجب قرارٍ قضائي).
2. أما إذا قررت اللجنة إحالة عدد من الضباط والمنتسبين في القوى الأمنية إلى المحاكم العسكرية فإنها لا تعالج موضوع قتل المجنى عليهم من ضحايا الاحتجاجات، لأن القضاء العسكري غير مختص بالنظر في القضايا التي يكون فيها طرف مدني لأنه مختص في النظر في الجرائم ذات الطابع العسكري الصرف وعلى وفق ما جاء في المادة (99) من الدستور وكذلك ما جاء في الفقرة (ثالثا) من المادة (25) من قانون أصول المحاكمات الجزائية لقوى الأمن الداخلي رقم (17) لسنة 2017 التي جاء فيها الآتي (ثالثاً – تختص محاكم الجزاء المدنية بالنظر في جرائم الحالتين الآتيتين : أ- إذا كانت الجريمة مرتكبة من رجل شرطة ضد مدني ب- إذا ارتكبت الجريمة من مدني ضد رجل شرطة) وكذلك بالنسبة لمنتسبي الجيش وعلى وفق ما جاء في الفقرتين (ثانيا وثالثا) من المادة (4) من قانون أصول المحاكمات الجزائية العسكري رقم 22 لسنة 2016 التي جاء فيها الآتي (ثانيا- تختص المحكمة المدنية في نظر الجرائم في الحالتين الآتيتين :أ-اذا كانت الجريمة مرتكبة من عسكري ضد مدني ب-اذا قررت السلطة العسكرية إيداع القضية إلى محكمة مدنية إن كانت متعلقة بحقوق مدنيين ثالثا – تختص المحاكم المدنية في النظر في الجرائم المرتكبة من قبل مدني ضد عسكري).
ومع ذلك فإن هذه اللجنة استهلكت وقتاً طويلاً دون أن يكون لها أي أثر قانوني، لأن قيمتها القانونية أصلاً لا تعدوا عن كونها بيانات وخطابات، وفي واقعة حصلت تؤكد ذلك، عندما أفرجت المحكمة عن المتهم بقتل الناشط هشام الهاشمي بعد ان اعترف وأجري له كشف دلالة، إلا أن محكمة التمييز اعتبرت هذه الأدلة غير قانونية وباطلة لأنها دونت من قبل لجنة تسمى بلجنة (الأمر الديواني 29) والمحكمة الاتحادية العليا كانت قد قضت بعدم دستورية تشكيلها لأن التحقيق حصرا يجب ان يكون بيد القضاء، مع التنويه إلى ان تلك اللجنة كانت تحت إشراف عدد من القضاة الأفاضل الذين نسبهم مجلس القضاء الأعلى، لذلك فان التحقيق الأصولي الذي يوجه الاتهام ويقرر التوقيف والحجز هو القضاء فقط لا غير، وأقصد بالقضاء.. محاكم الجزاء المدنية التابعة إلى مجلس القضاء الأعلى حصراً، لأن الضحايا هم من المدنيين وكذلك ضحايا منتسبي القوات الأمنية فان الشكوك تحوم حول مدنين مندسين قاموا بالاعتداء على القوات الأمنية على وفق رواية الحكومة التي كررتها في أكثر من مناسبة وعلى لسان كبار المسؤولين الأمنيين والتنفيذين في حينه.
وهذه الاحتجاجات التي نستذكرها هذه الايام ستمضي ذكراها مثل سابقاتها وكذلك القادمة، وينتهي أثرها بالخطابات والاستنكار، فيما يبقى الضحايا ترنوا عيونهم إلى العدالة لإنصافهم عن طريق تقديم الجناة إلى العدالة، وأرى أن خير من ينصف الضحايا هو والقضاء الذي كان ومازال الأمل في حماية الحقوق ومنع الاعتداء وتوفير الأمن الاجتماعي،
كما أن عامة الشعب تعول على القضاء العراقي من أجل ترسيخ مبادئ الدستور في الحق بالتعبير والتظاهر السلمي وعلى وفق ما قرره الدستور في المادة (38) عندما جعل التزام الدولة بتوفير الأجواء المناسبة لممارسة هذه الحقوق، والضمان الوحيد للتمتع بهذا الحق الدستوري هو القضاء العراقي، عبر محاسبة من يمنع ومعاقبة من يعتدي على من يمارسه حقه في التظاهر.
مع التنويه إلى أن الاحتجاجات وهي من صور التظاهر، ما كانت عبثاً بل أنها صرخة وجع مما يعاني منه الشعب في ظل استشراء الفساد، ويبقى الأمل في وجود القضاء العادل الذي ينصف الضحايا، ويحاسب القوات الأمنية التي تتجاوز تكليفها الدستوري بالعمل على وفق مبادئ حقوق الانسان، حيث ورد في الدستور عدة مواد تلزم القوات الأمنية بالعمل على وفق مبادئ حقوق الانسان وعلى وفق احكام المادة (84) من الدستور التي جاء فيها (ينظم بقانون عمل الأجهزة الأمنية وجهاز المخابرات الوطني وتحدد واجباتها وصلاحياتها، وتعمل وفقا لمبادئ حقوق الانسان وتخضع لرقابة مجلس النواب)، لأن مهمة تلك القوات تنحصر بالحفاظ على أرواح المواطنين بما فيهم المحتجون، وتأمين الحماية لهم و للممتلكات العامة والخاصة، لكن لا يمكن لها أن تقتل المحتج مهما كان تصرفه حتى وإن فيه خرقا للقانون، لأن مهمتها القبض عليه وتقديمه إلى الجهة القضائية المختصة، ولا يجوز لها أن تقتص من هؤلاء وتقتلهم او تؤذيهم، ويقول أحد الكتاب بان النظام القضائي (الجزائي) في دولة ومجتمع ديمقراطي يكون فعالاً بقدر ما يرى الناس في تطبيقه بأنه نظام عادل ويحمي حقوق الأفراد كما يحمي الصالح العام.
ــــــــــــــــ
* قاضٍ متقاعد