برغم امتلاك العراق ثروات نفطية ومقومات اقتصادية ضخمة، لا يزال اقتصاده يعاني من اختلالات بنيوية عميقة، انعكست على حياة المواطنين بشكل مباشر، بدءاً من هشاشة البنية الإنتاجية، مروراً بغياب التخطيط الاستراتيجي، وصولاً إلى تفاقم الغلاء وتآكل القدرة الشرائية.
يقول خبراء اقتصاديون، أن الفساد والاعتماد المفرط على النفط، وضعف الإدارة الاقتصادية، تشكل عوامل جعلت أي تحسن في المؤشرات المالية هشّاً ومؤقتاً. فيما يظل المواطن عاجزاً عن لمس نتائج هذا التحسن في تفاصيل حياته اليومية.
تراكمات كثيرة
الباحث في الشأن الاقتصادي أحمد عيد، يرجع أسباب هذه الأزمة إلى تراكمات كثيرة تشمل الفساد وضعف الإدارة، إلى جانب اعتماد البلاد شبه الكامل على النفط كمصدر رئيس للإيرادات.
ويقول عيد لـ"طريق الشعب"، إن هذا الاعتماد جعل الاقتصاد العراقي رهينة لتقلبات أسعار النفط في الأسواق العالمية، ما يضع الموازنة العامة في مهب التذبذب الدائم، ويؤثر بصورة مباشرة على قدرة الدولة في تمويل مشاريعها أو تحسين الخدمات الأساسية.
ويضيف أن "الفساد المستشري في مؤسسات الدولة عطّل نمو قطاعات إنتاجية أساسية مثل الزراعة والصناعة، وأضعف قدرة الدولة على بناء مشاريع تنموية مستدامة"، لافتاً إلى أن بيئة الاستثمار لا تزال تعاني من تحديات جسيمة تتمثل في غياب الاستقرار السياسي والإداري، وتعقيدات البيروقراطية، وانعدام الثقة بين الدولة والمستثمرين المحليين والأجانب.
هذه الاختلالات البنيوية انعكست بوضوح على الأسواق المحلية، حيث بات ارتفاع الأسعار ظاهرة مستمرة.
ويجد عيد أن "السبب الرئيس وراء ذلك هو اعتماد السوق العراقي بشكل كبير على الاستيراد، ما يجعله متخلخلا مع حدوث أي تغيّر خارجي في أسعار السلع. كما أن غياب الرقابة الحكومية الفاعلة، وتراجع دور البطاقة التموينية، وارتفاع تكاليف النقل والتوزيع داخل البلاد، كلها عوامل أسهمت في تفاقم الغلاء، وتآكل القدرة الشرائية لدى المواطنين.
ويردف المتحدث كلامه بأن العراق يمتلك إمكانات اقتصادية ضخمة يمكن أن تؤهله للتحول إلى اقتصاد متنوع وقوي، إذا ما وُضعت سياسات إصلاحية جادة، تستهدف مكافحة الفساد، وتنويع مصادر الدخل، وتوفير بيئة استثمارية مستقرة. لكنه يحذر من أن استمرار الأوضاع الراهنة، في ظل غياب التخطيط الاستراتيجي واستمرار الاضطرابات السياسية والإدارية، سيُبقي الاقتصاد في حالة تراجع دائم ويزيد من معاناة المواطنين.
مزيج معقد
من جهته، رهن الأكاديمي والباحث الاقتصادي د. نوار السعدي، ضعف الاقتصاد العراقي بـ"مزيج معقد" من العوامل الهيكلية والسياسية والإدارية، تجعل أي تحسن اقتصادي مؤقتاً وهشاً، وغير قابل للاستدامة.
وقال السعدي لـ"طريق الشعب"، إن العراق، على الرغم من امتلاكه ثروة نفطية هائلة، لم ينجح حتى الآن في تحويل هذه الثروة إلى قاعدة اقتصادية متنوّعة وقوية.
وأضاف أن الاعتماد المفرط على النفط لا يمثل مشكلة تقنية فحسب، بل يرتبط بكيفية إدارة الإيرادات وتخصيصها، موضحا أن المؤسسات المالية ما زالت عاجزة عن خلق قاعدة ضريبية فاعلة أو تحويل الفوائض النفطية إلى استثمارات طويلة الأمد، إذ تُستخدم في الغالب لتغطية النفقات الجارية مثل الرواتب والدعم، ما يترك الاقتصاد عرضة لصدمات أسعار النفط، ويضعف قدرة الدولة على تمويل مشاريع إنتاجية مستدامة.
وأشار السعدي إلى أن البنية التحتية وقطاع الطاقة يمثلان عقبة رئيسية أمام النمو، لافتاً إلى أن شبكة الكهرباء ما تزال مهترئة، وأن اعتماد العراق على واردات الغاز والكهرباء من الخارج، يجعله عرضة لضغوط سياسية.
كما شدد على أن حرق الغاز المصاحب يمثل هدراً اقتصادياً وبيئياً، ويحرم البلاد من فرص استثماره كمورد للطاقة والدخل.
وفي جانب آخر، اعتبر السعدي أن الفساد والجمود المؤسسي من أبرز التحديات التي تواجه الاقتصاد، حيث تخضع السياسات المالية والإنفاق العام لمنطق سياسي قصير الأمد، بدلاً من التخطيط الاستراتيجي، ما يفسر – بحسب قوله – عدم تحول البرامج الحكومية الواسعة إلى إنجازات اقتصادية ملموسة.
وعن تقييمه للخطط الاستراتيجية الحكومية الحالية، أشار إلى وجود مبادرات إيجابية في مجالات البنية التحتية والطاقة المتجددة وتطوير الغاز المحلي عبر اتفاقات مع شركات عالمية، لكنه شدد على أن معظم هذه المشاريع ما تزال على الورق وتفتقر إلى آليات تمويل مستدامة وإطار مؤسسي قوي.
وبيّن أن نجاح هذه الخطط مشروط بإصلاحات ضريبية وجمركية حقيقية، إضافة إلى إنشاء صندوق سيادي يضمن تحويل نسبة ثابتة من الفوائض النفطية إلى احتياطيات واستثمارات طويلة الأجل.
أما بشأن ارتفاع أسعار السلع والخدمات في العراق، فقد أوضح السعدي أن الأسباب متشابكة، إذ ترتبط جزئياً بارتفاع تكاليف السلع عالمياً واضطرابات سلاسل الإمداد، لكن العوامل الداخلية تبقى الأكثر تأثيراً، ومنها ضعف الإنتاج المحلي، وتذبذب سعر الصرف، ووجود سوق موازية للعملة، فضلاً عن السياسات الحكومية الطارئة التي تزيد السيولة دون إنتاج مقابل.
وزاد بالقول أن الرسوم الجمركية والتعقيدات البيروقراطية واللوجستية تسهم في رفع الأسعار، ما يجعل التضخم في العراق ظاهرة مركبة تحتاج إلى حلول متكاملة تشمل السياسة النقدية والهيكلية.
وختم السعدي بالقول إن الطريق للخروج من المأزق الاقتصادي لا يكمن في البرامج الرمزية، بل في إجراءات جذرية يبدأ تطبيقها فوراً، مثل: تخصيص جزء ثابت من الإيرادات النفطية لصندوق سيادي، إصلاح النظام الضريبي وتوسيع قاعدته، استثمار الغاز المصاحب بعقود شفافة مع شركات كبرى، وإعادة هيكلة الإنفاق العام ولا سيما كتلة الأجور. واعتبر أن هذه الإجراءات كفيلة بتحويل الاستراتيجيات الحكومية من وعود إلى واقع اقتصادي منتج ومستدام، ينعكس على خفض الأسعار وتحسين مستويات المعيشة.
متغيرات جيوسياسية
أما الخبير الاقتصادي زياد الهاشمي فقد ربط العوامل التي ساهمت في انخفاض سعر صرف الدولار خلال الفترة الماضية بـ"التحول التدريجي في التجارة نحو استخدام الحوالات الخارجية المباشرة، وهو ما قلّل من الطلب على الدولار النقدي في السوق الموازي".
وقال الهاشمي لـ"طريق الشعب"، أن البنك المركزي العراقي ضخ خلال النصف الأول من العام الحالي أكثر من 820 مليون دولار نقداً، إضافة إلى نحو 3 مليارات دولار عبر البطاقات الإلكترونية، الأمر الذي عزز حصول المواطنين والتجار على الدولار بشكل نظامي وبالسعر الرسمي.
وأضاف أن المتغيرات الجيوسياسية التي شهدتها بعض دول الجوار من مواجهات وتغييرات في الأنظمة وتشديد على الحدود، لعبت دوراً مهماً في تقليل الضغط على سحب الدولار النقدي العراقي من الأسواق المحلية.
وتابع أن انخفاض السيولة الحرة من الدينار، وزيادة التعاملات بالدينار عبر الدفع الإلكتروني، ساهما بدورهما في تقليل حالة "الدولرة" داخل الاقتصاد العراقي، مردفا أن "بوادر الركود الاقتصادي وتراجع النشاط التجاري في الأسواق انعكست هي الأخرى على أسعار صرف الدولار".
ونبه الخبير الاقتصادي الى أن ارتفاع قيمة الدينار أمام الدولار لم يقابله انخفاض في أسعار السلع والخدمات، إذ ما زالت المستويات السعرية مرتفعة، وهو ما يعكس بحسب قوله "حقيقة اقتصادية تتعلق بمرونة الأسعار، حيث ترتفع سريعاً مع انخفاض قيمة الدينار، لكنها لا تنخفض بالوتيرة نفسها عند تحسن قيمته".