تفتخر حركة الشعر وخاصة الشعبي منها بأنها تضم رموزا وأهرامات تبقى شامخة في فضاء هذه الحركة وديمومة سموها في مجال الأدب الشعبي الذي يمثل اللغة التي تنساب كلماتها عبر مسالك الروح انسيابية تمتزج بتلاقح سريع مع شعور وعاطفة الإنسان المتلقي المستمع المتذوق لهذا اللون.
فهي تنساب كالماء في عروق الضامي وكضوء الشمس عند الشروق وطوفان الفرحة عند لقاء الحبيب بعد الغياب، علما بأن الشعر شيء أخر غير اللغة. انه الانحراف عن الكلام المتداول، إي الكلام العادي، الانحراف الذي يتجاوز فيه الكلمات ويضغط بعضها على الأخر في تركيب غير مألوف، فهو الاتصال والتلاقح بين ما يمكن إدراكه وما لا يمكن إدراكه.,
ولكن المتتبع لحركة الشعر الشعبي خاصة يلاحظ انه عانى الكثير من عدم القدرة على امتلاك الحرية الكافية والمجال المطلوب في تحركه، مما قاده إلى التنازل عن جانب ثمين ومقدس من ذاته إلى مؤسسات الإنسان، وعلى اختلاف الصعد كالدين والسياسة والأخلاق وغيرها من الأمور، التي كان مرغما أو متزلفا لها. فمن طبيعته الدفاع عن صفاته وذاته كما يدافع الإنسان عن حريته، حيث كان الشعر يوظف حسب الطلب، لان الوضع لا يسمح له إلا إذا كان في الموضوع الفلاني أو المناسبة الفلانية، أي كان يدفع إلى الخضوع لتسويات خاصة مما يدفع بعجلته إلى الانزلاق خارج مسارها الصحيح، الذي هو مزيج من الحلم والفكر والعالم المحيط.
فالشاعر ميزة مزدوجة عالق بالتاريخ وملتصق به حد الانصهار، حيث يستمد الشعر وكناياته ومجاراته واستعاراته. فالشعر اكتشاف للأشياء والنظائر بين الإنسان وصفاته، فهو موطن لجمال الأرض وليس موطن قسوة لها. فهو مرآة الروح، وهو السفر إلى أقاصي كيان الإنسان، وهو "موجة لا شاطئ لها وهو خلق عالم أخر يبني بيوتا أخرى ويسلك دروبا ثانية" كما قال الشاعر أودنيس، الذي يعرّف الشعر بأنه "لغة نهائية يمكن إن تصدر عن تجارب متنوعة".
لقد أردت من هذه المقدمة التأكيد على الشعر واللاشعر، على الأصالة والتطفل , على الإبداع والزيف، الحقيقة والادعاء، على الشاعر الذي يمتلك المواصفات أنفة الذكر والزائف الذي لا يجوز تسميته شاعراً، حيث ضمت مسيرة الحركة الشعرية (للشعر الشعبي) كثيرا من هؤلاء، فسقط الذي سقط وذاب كقطعة ثلج في قدر ماء مغلي، وامتطى الباقي صهوة البقاء والديمومة والمجد رغم تعاقب السنين وتطور الزمن.
فشاعرنا المرحوم كاظم لإله من أعمدة الشعر وتراث الأدب الشعبي الذي تعانق مفرداته نجوم سماء هذا النوع من الفنون.
عاش ورحل وهو يفيض بعطائه الصادق والملتصق بالحياة الاجتماعية التصاق الظل بالجسم، شاعر ابتعد عن الصنعة وعن الانزلاق خارج المسار الصحيح للغته، فجاءت عطاءاته متوهجة كمصباح في شارع مظلم. كلماته مثقلة بالمعاني التي تجعل القارئ يقف عندها بدهشة متناهية، وشعور ممزوج بالحلم والحنين والتعجب.
كتب الفقيد كاظم لاله بجميع أوزان الشعر الشعبي وأنواعه واغرضه، وكان فارسا يصول في هذا الميدان، وهو كما قال الشاعر العظيم أبو الطيب المتنبي:
أنام ملىء جفوني عن شواردها ... وتسهر الخلق جرّاها وتختصم ُ)