في ناحية النشوة شرقي البصرة، تقضي الفلاحة الشابة سعدية حسين مهاوي مع والدها، ساعات النهار في إدامة حقلهما وسقي مزروعاته من الخضراوات البسيطة، رغم تصاعد ملوحة المياه.
لا تكترث سعدية لعناء ساعات العمل، لكن ما يُثير قلقها هو الأثر الضار الذي باتت تتركه المبيدات الزراعية على جسدها. إذ تقول في حديث صحفي: "نحن نغذي الأرض، وفي المقابل تتسمم أجسادنا".
وتوضح أنه "كنت أرشّ المبيد بنفسي من دون قفازات أو كمامة، لأحمي الزرع من الحشرات، واليوم بات جسدي يمتلئ بالطفح الجلدي"، مضيفة أن "الطبيب حذّرني من استخدام المبيدات أو التعرض لها، وإلا ستسوء صحتي أكثر".
وفي المنطقة ذاتها، كاد المزارع الستيني حسن بادع يفقد حياته إثر تعرضه لتسمم حاد جراء ملامسته واستنشاقه مبيدات زراعية. يقول في حديث صحفي: "كنت أرشّ المبيد وقت الظهيرة، وفجأة شعرت بدوار وسقطت أرضا"، مبينا أن أبناءه حملوه إلى المستشفى، وهناك أخبرهم الطبيب أنه بالكاد استطاع النجاة من السموم التي تعرض لها.
وفي ناحية الدير شمالي البصرة، يشكو الفلاح علي غازي من مشكلة مزمنة في معدته، يعتقد انها من تداعيات استخدامه المبيدات في معالجة أشجار النخيل المصابة بالآفات الزراعية.
ما تعانيه سعدية وحسن وعلي، أمور تتكرر مع الكثير من الفلاحين، بسبب الجهل بالطريقة الصحيحة لاستخدام المبيدات الزراعية، وأيضاً رداءة بعض نوعياتها التي تباع في الخفاء ويقبل عليها المزارعون لرخص أسعارها.
ولا تقتصر تأثيرات المبيدات الرديئة على مستخدميها، إنما تمتد إلى المحاصيل الزراعية، وبالتالي تنتقل إلى المستهلك – حسب ما يذكره اختصاصيون.
اختناق وطفح جلدي
مسؤولة القطاع الصحي في ناحية الدير، زهراء رحيم حسين، تقول في حديث صحفي أن "مزارعين عديدين لا يستخدمون مستلزمات الوقاية عند رش المبيدات. لذلك يستنشقون تلك المواد السامة بشكل مباشر، ويصابون بالاختناق والطفح الجلدي، ويتعرضون للاغماء أحيانا".
وتلفت إلى ان "المشكلة لا تكمن فقط في غياب وسائل الوقاية، بل في ضعف الوعي الصحي وانتشار أنواع محظورة من المبيدات ذات السمية العالية في الأسواق المحلية، في ظل عدم وجود رقابة صارمة تمنع كليا دخول واستخدام تلك المبيدات".
وتوضح أن "هناك انواعا من المبيدات معروضة للبيع في الأسواق، لا تصلح أصلا للاستخدام الزراعي، ومع ذلك يلجأ إليها الفلاحون لرخص اثمانها وجهلهم بخطورتها".
وتحذر المسؤولة الصحية من الاستخدام غير المنضبط للمبيدات الكيميائية على المحاصيل الزراعية وصحة الإنسان "إذ ان تجاوز الجرعات الموصى بها أو عدم الالتزام بفترة الأمان قبل الحصاد، يترك بقايا سامة على الثمار، وحتى داخلها، خصوصا بالنسبة للخضراوات والفاكهة التي تمتص المواد الفعالية".
وتتابع القول أن "ضرر الاستخدام غير المنضبط للمبيدات لا يكمن فقط في تراجع القيمة الغذائية للمحصول، بل قد يحوله إلى مصدر محتمل للأمراض"، مشيرة إلى ان "المستهلك ربما لا يدرك أن بعض المنتجات، مثل الطماطم، رُشت بالمبيدات قبل يومين فقط من قطافها، أو انها تحتوي على مواد محظورة دوليا يتم تداولها في السوق السوداء". وتشير وكالات أنباء إلى ان أطباء في البصرة سجلوا زيادة في حالات التسمم الغذائي وأعراضاً غامضة لدى الأطفال، منها ضعف المناعة واضطرابات النمو، والتي يُعتقد انها ناتجة عن تراكم بقايا المبيدات في أجسادهم.
وتظهر أبحاث طبية احتواء بعض المبيدات على مركبات تؤثر على الجهاز العصبي وتصنَّف كمسببات لاضطرابات الغدد الصماء، بينما تُزيد أنواع أخرى احتمالات الإصابة بالسرطان، والفشل الكلوي، وتشوهات الأجنة.
هذه المخاطر تجعل مهندسين زراعيين وباحثين صحيين، يشددون على أهمية زيادة وعي الفلاحين بمخاطر الاستخدام الخاطئ للمبيدات، مع وضع رقابة حكومية صارمة على نوعية المبيدات المطروحة في الأسواق. فيما يطالب ناشطون بيئيون بصريون بإنشاء مختبرات رقابية لفحص المحاصيل المعروضة في الأسواق، وبتحديث التشريعات الزراعية بما يتوافق والمعايير الدولية، وفرض عقوبات رادعة على من يروج أو يستخدم المبيدات المحظورة، مؤكدين أن هناك مبيدات محظورة تبيعها مكاتب زراعية في مناطق مختلفة من البصرة.
مكاتب زراعية غير متخصصة
في السياق، يحذر ممثل اتحاد الجمعيات الفلاحية في ناحية النشوة فلاح مطر، من اتساع بيع المبيدات الزراعية المهددة للصحة. ويقول في حديث صحفي أن "المبيدات التي توفرها الدولة عادة ما تكون آمنة وخاضعة للرقابة، لكن بسبب فوضى السوق ووجود مكاتب خاصة يديرها أشخاص غير اختصاصيين، باتت صحة الفلاحين في خطر".
أما المهندس الزراعي أحمد جاسم فيقول أن "بعض باعة المبيدات لا يملكون أية مرجعية علمية، فيروجون مواد سامة خطيرة على الصحة، ويقنعون الفلاحين باستخدامها لمكافحة الآفات الزراعية، ما يؤدي إلى حالات تسمم وتلوث خطيرة".
ويلفت في حديث صحفي إلى ان "الكثير من المبيدات المنتشرة في السوق مغشوشة. حيث تحمل علامات تجارية مزورة"، مؤكدا أن "المبيدات، في حال استخدامها بشكل غير منضبط، تترك آثارا في المحاصيل، التي يسبب استهلاكها تراكما تدريجيا للسموم في الجسم".
تداول مبيدات محظورة
من جانبه، يقر عدي عباس، وهو صاحب متجر لبيع المبيدات الزراعية في ناحية الهارثة شمالي البصرة، باستمرار تداول مبيدات محظورة عالية السمية في الأسواق.
ويوضح في حديث صحفي أن "هناك مبيدات ممنوعة رسميا، لكنها لا تزال تُباع في الأسواق غير المجازة، ويجري تداولها بين بعض التجار والمزارعين رغم علمهم بخطورتها"، مبينا أن "تلك المبيدات يجري تهريبها أو استيرادها بطرق غير شرعية".
ويلفت إلى ان "من أخطر هذه المواد مبيد الباراكوات المحظور في دول عدة بسبب تأثيره المباشر على الجهاز التنفسي واحتمال تسببه في الوفاة حتى بكميات صغيرة، إضافة إلى مبيد الكلوربيريفوس الممنوع دولياً لتأثيراته الضارة على الجهاز العصبي".
إجراءات حكومية
في مواجهة تصاعد مخاطر المبيدات الزراعية المغشوشة، يقول مدير زراعة البصرة هادي حسين، أن دائرة وقاية المزروعات في وزارة الزراعة توفر المبيدات مجانا للفلاحين ضمن خطة دعم رسمية، وأن هناك إحصائيات دقيقة بشأن الكميات والأنواع التي توفرها الوزارة، مستدركا "لكن ليست هناك أي بيانات تخص المبيدات التي تدخل عن طريق القطاع الخاص، لأنها تُستورد عبر إقليم كردستان، وتُوزع من بغداد عبر وكيل خاص".
ويشير إلى ان "هناك دائرة للإرشاد والتدريب الزراعي، تنفذ برامج توعية للمزارعين من خلال ندوات ميدانية ومشاهدات حقلية سنوية توضح طرق الاستخدام الآمن للمبيدات"، منوّها إلى انه "على الرغم من هذه الجهود، لا تزال هناك ممارسات خاطئة. فبعض الفلاحين لا يلتزمون بالتوجيهات ويستخدمون المبيدات بشكل مفرط، ما يرفع احتمالية التسمم أو التعرض للأمراض".