أدرك أمجد كريم (29 سنة) من مدينة الثورة (الصدر)، بعد شهور من تقديم طلبات التعيين للمؤسّسات الحكومية، أن فرصته في الحصول على عمل حكومي بشهادته الجامعية، معدومة. لذلك توجّه نحو العمل الخاصّ بائعاً للشاي في كشك صغير بالقرب من سوق مريدي الشعبي، الذي أزالته البلدية قبل أيام.
طوال ستّ سنوات عمل كريم على إعالة أسرته، مكان أبيه المتوفى. فكان عمله يؤمّن مصاريف العائلة قبل أن يواجه في نيسان 2023 "منعطفاً مأساوياً"، حين اكتشف إصابة والدته بسرطان الثدي. إذ توجّب عليه تحمّل تكاليف علاجها الباهظة، لينفد سريعاً كلّ ما لديه من مال وتتراكم عليه الديون، ما أجبره على البحث عن أي وسيلة تنقذ والدته والعائلة، بما فيها بيع أحد أعضاء جسمه!
في كانون الأول 2023 شاهد كريم منشورا على فيسبوك يطلب متبرعين بالكلى. ومع تردّي وضعه المالي وحالة والدته، لم يقاوم العرض المقدّم له.
يقول في حديث صحفي: "قدّموا 13 مليون دينار مقابل إحدى كليتيّ، وكان هذا المبلغ يعني بالنسبة لي تخفيفاً للديون واستمراراً في علاج أمّي!"، مضيفا أنه اتفق مع صاحب المنشور على كل التفاصيل، بما في ذلك السفر إلى إيران لإجراء العملية الجراحية في أحد مستشفياتها. فأخبر والدته بأنه سيسافر من أجل فرصة عمل عُرضت عليه.
ويضيف كريم أن صاحب المنشور ومعه فتاة عراقية، استقبلاه في طهران، وأسكناه في شقة بالقرب من المستشفى، لمدة 20 يوما خضع خلالها لفحوص مختبرية، أكدت صلاحية كليته للمُتبرَع له، مشيرا إلى أن العملية أجريت له، وبعد أن أمضى خمسة أيام متتالية في المستشفى، عاد إلى بغداد، وأخبر والدته وأخوته الصغار بأن فرصة العمل لم تكن ملائمة!
لكن آلاما مبرحة داهمته. حيث ظهرت مضاعفات العملية، لكنه أخفى الأمر عن والدته التي فارقت الحياة في أيلول 2024.
وأخيرا، ينصح كريم الناس بعدم اختيار الطرق التي يعتقدون أنها سهلة "بيع كليتي لم يكن حلاً صائباً، وللأسف تداعيات ذلك ستؤثّر على حياتي دائماً، كما يؤكّد أطباء".
وانتشرت خلال السنوات الأخيرة في العراق، شبكات للإتجار بالأعضاء البشرية، تتهمها أجهزة الحكومة باستغلال الظروف المالية الصعبة للمواطنين، واستدراجهم عبر عروض لبيع أعضائهم خلافاً للقانون، ومقابل مبالغ زهيدة قياساً بما تحصل عليه تلك الشبكات، التي تُزوّر بعض الوثائق لضمان إجراء الجراحة داخل العراق، أو التوجّه لإجرائها في دول أخرى خارج المتطلّبات القانونية، وبعيداً عن الرقابة.
مفاوضات استقصائية
"شبكة نيرج" للصحافة الاستقصائية، تذكر في تقرير لها أنها من خلال البحث والتقصي ومراقبة حسابات متعددة على مواقع التواصل، عثرت على سبع شبكات نشطة في مجال الإتجار بالأعضاء، مبينة أنها تواصلت مع الشبكات كبائعين مفترضين عبر رسائل خاصة ومكالمات هاتفية.
وتوضح "نيرج" أن أحد الاتصالات كان في شباط الماضي، مع امرأة قدمت نفسها على انها منسقة بين المتبرعين ومرضى الكلى، وانها تسأل المتبرع عن جملة من التفاصيل، بينها العمر والوزن وفصيلة الدم ووجود أية أمراض وتاريخ انتهاء صلاحية جواز السفر.
وتضيف أن السيدة قدمت عرضا بـ13 مليون دينار مقابل الكلية الواحدة، مع تذكرة سفر جوي ذهابا وإيابا بين بغداد وطهران، فضلا عن تكاليف الإقامة والطعام والمصروف اليومي وتكاليف إجراء العملية.
وتذكر "نيرج" أن الاتصال الثاني قامت به خلال الفترة ذاتها مع فتاة من مروجي بيع الأعضاء البشرية، مبينة ان الفتاة أخبرتها بأنها متعهدة طبية، وانها سألت عن التفاصيل نفسها التي سألت عنها السيدة، وقالت ان العملية ستُجرى أيضا في طهران.
فيما تضيف انها تواصلت مع سمسار ثالث قدم نفسه على انه متعهد طبي في أربيل، وان الأسئلة التي طرحها نفسها التي طرحتها السيدة والفتاة، ما يوحي – وفق "نيرج" – ان الجميع شبكة واحدة، أو شبكات متعددة تدير عملياتها بالطريقة نفسها!
وتلفت إلى أن هذه الرحلة أوصلتها إلى مجموعة خاصة بالمتبرعين بالكلى والمتاجرين، على "فيسبوك"، مبينة أنها شاركت في الدردشات كبائع كلى لكسب ثقة المتاجرين، فقامت امرأة بإرسال رسالة دعائية خاصة إلى البائع (نيرج)، مفادها: "نحن مؤسّسة قانونية بخبرة 14 سنة، ونضمن لك المصداقية والشفافية".
وتتابع القول أنها تواصلت مع صاحبة الدعاية، فكررت كلام من سبقوها، بأن العملية ستُجرى في طهران مقابل 13 مليون دينار، مع التكفل بالنفقات المذكورة!
مراقبات أمنية
في السياق، يقول مدير مكافحة الإتجار بالبشر والأعضاء البشرية في وكالة الاستخبارات والتحقيقات الاتّحادية، العميد مصطفى الياسري، أن "شبكات تجارة الأعضاء البشرية التي تنشط في إيران وكردستان العراق تخضع لمراقبة مستمرّة من قِبل الأجهزة المختصّة"، موضحا في حديث صحفي أن لمديريته فرقاً خاصّة تعمل بالتعاون مع هيئة الإعلام والاتّصالات ووزارة الاتّصالات، إلى جانب مديرية التقنيات في وكالة الاستخبارات وقسم الجريمة الإلكترونية، لتعقّب هذه الشبكات، ومتابعة حساباتها على مواقع التواصل. حيث يتمّ رصدها لمعرفة القائمين عليها، واتّخاذ الإجراءات القانونية بحقّهم داخل العراق.
ويتابع قوله: "أما إذا كانت هذه الشبكات تُدار من الخارج، فنقوم بالتنسيق مع الجهات المختصّة في تلك الدول، لقطع الطريق أمام هذه التجارة غير الشرعية".
ووفق العميد الياسري، فإن هذه الشبكات لا يقتصر دورها على ممارسة السمسرة وترتيب عمليّات البيع فقط، بل يصل الأمر الى الإيقاع بضحاياها بوسائل متعدّدة، كتوقيعهم على كمبيالات وصكوك مالية لا يستطيعون سدادها، ما يُجبرهم على تقديم أعضائهم كتعويض، مبيّناً أن السلطات الأمنية ضبطت شبكة في النجف بداية العام الجاري، كانت تستدرج الضحايا بوسائل عدة لإجراء عمليّات استئصال الكلى في إيران.
ويؤكّد أن "العمليّات تُجرى غالباً بسرّية تامّة عبر وسطاء، كونها غير قانونية، وان المستشفيات الإيرانية التي تُجري هذه العمليّات تخضع لمراقبة السلطات العراقية"، لافتا إلى ان "سلطاتنا اتّخذت إجراءات قانونية ضدّ تلك المستشفيات بالتعاون مع السلطات الإيرانية. حيث تمّ الاتّفاق على عدم السماح لأي مواطن عراقي بإجراء عمليّات التبرّع في المستشفيات الإيرانية، إلا بعد الحصول على موافقة القنصل العراقي في إيران. وهي موافقة تُمنح فقط بعد تقديم المتبرّع شهادة مصدّقة من وزارة الصحّة العراقية".
وتؤكّد مديرية مكافحة الإتجار بالبشر والأعضاء البشرية، أن العراق حقّق أخيرا نجاحاً في مكافحة هذه التجارة، وانه تمّ القضاء بنسبة 80 في المائة على هذه الجريمة، واعتقال بعض أخطر المروجين ومحاكمتهم.
انتهاك القانون
مطلع عام 2024 تقدّم عضو مجلس النواب حيدر المطيري بمقترح إلى وزارة الصحّة لمنح المتبرّعين بالكلى القانونيين تأميناً صحّياً مجّانياً مدى الحياة، مع إعفائهم من أجور الخدمات الصحّية والأقساط الشهرية والاشتراكات. وقد تم إدراج هذا المقترح ضمن مشروع التعديل الأوّل لقانون الضمان الصحّي رقم 22 لسنة 2020.
كما اقترح محافظ البصرة أسعد العيداني، إنشاء "المركز الوطني للتبرّع بالأعضاء البشرية"، وقدم اقتراحه لمجلس الوزراء بهدف تنظيم عمليّات التبرّع، ومعالجة مشكلة نقص الأعضاء. وتضمّن المقترح تقديم مكافآت مالية ورواتب رعاية اجتماعية للمتبرّعين العاطلين عن العمل.
لكن عضو نقابة المحامين العراقيين انسام علي، ترى أن هذه المقترحات قد تشكّل انتهاكاً للقانون: "أي عملية تبرّع يُدفع فيها المال، تندرج تحت المادّة 9 من قانون مكافحة الإتجار بالبشر رقم 28 لسنة 2012". وتؤكّد في حديث صحفي أن "إدخال المال في التبرّع يحوّله إلى تجارة واضحة، ما يتعارض مع قانون زراعة الأعضاء البشرية".
وتنصّ المادّة 9 على "حظر بيع العضو أو النسيج البشري أو شرائه أو الإتجار به بأية وسيلة كانت، ويحظر على الطبيب إجراء عمليّة استئصال العضو وزرعه عند علمه بذلك".
وتشير انسام إلى أن الإعلانات المنتشرة عبر وسائل التواصل، والتي تروّج "فرص التبرع"، تستهدف الفقراء الذين يمرّون بضائقة مالية "إذ يتم إقناعهم بالتبرّع مقابل مبالغ زهيدة، في حين تحقّق هذه التجارة أرباحاً طائلة للعاملين فيها".
بنك الأعضاء هو الحلّ
وفقا لرئيس لجنة الصحة في البرلمان ماجد شنكالي، فإن أبرز مشكلة تواجه مكافحة الإتجار بالأعضاء، هي "عدم وجود بنك للأنسجة والأعضاء البشرية، ما يعيق تنظيم عمليّة التبرّع بنحو قانوني"، مؤكدا في حديث صحفي "إمكانيّة تقنين عمليّات التبرّع ومنع تجارة الأعضاء البشرية، إذا وُجد البنك".
ويقول أن "لجنة الصحّة فاتحت في وقت سابق وزارة الصحّة، من أجل إنشاء بنوك خاصّة بالأعضاء البشرية في بغداد والمحافظات، وفقاً لقانون عمليّات زرع الأعضاء البشرية ومنع الإتجار بها رقم 11 لسنة 2016".
وإضافة إلى عدم وجود بنك للأنسجة، يرى شنكالي أن هناك تحدّيات عديدة تواجه جهود مكافحة الإتجار بالبشر، مثل الفقر والبطالة وأيضاً "بعض الفتاوى الفقهية التي تُجيز منح مكافآت مالية للمتبرّع".
وعن أسباب تعطّل إنشاء بنوك الأعضاء في العراق، يقول المتحدّث باسم وزارة الصحّة سيف البدر، في حديث صحفي، أن "هناك تحدّيات تقنية وفنّية تتعلّق بتخزين الأعضاء وحفظها، إضافة إلى الحاجة إلى تأهيل وتدريب الكوادر الطبّية المختصّة".