يتجول الحاج عقيل الياسري في أزقة بغداد متأملاً البيوت التراثية القديمة والمباني الجديدة، وبينما يهز رأسه أسفا على ما يسميه "عشوائية البناء"، يقول في حديث صحفي أنه "سابقاً كنّا نرى المنازل فنميز بين بناء السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات. ونعرف الطراز اليهودي أو العثماني. أما اليوم، فقد أصبحت المنازل تُبنى بشكل عشوائي لا تحمل أي هوية واضحة". ويضيف أنه "حتى العمارات باتت مصدر تلوث بصري، تُغلف بمواد وألوان غير مريحة للنظر، وفق طرازات غير معروفة، وهذا أمر مؤسف أن نفقد هويتنا المعمارية". ومنذ سنوات تعاني بغداد إهمالا كبيرا لمبانيها التراثية، إثر عوامل متعددة، أبرزها عدم الاكتراث من جانب الحكومة، وكثرة التجاوزات التي حوّلت الكثير من تلك المباني إلى مكبات نفايات أو ساحات وقوف سيارات أو مراكز تجارية، في ظل عدم توفر خطط جادة لحماية هذا الإرث، وتصاعد جشع سماسرة العقارات، الذين يدفعون ملّاك تلك المباني إلى بيعها أو هدمها.
وخلال السنوات الأخيرة شهدت بغداد نهضة عمرانية تمثلت في انتشار عمارات سكنية ومولات ومبان تجارية، ما دفع اختصاصيين إلى تسجيل ملاحظات على تلك الأبنية التي رأوا انها لا تمثل النمط العمراني العراقي، وانها تساهم في طمس الهوية التراثية.
تزايد الطلب على السكن
من جانبها، تقول المهندسة المعمارية هديل كريم، أن "هناك تحوّلاً واضحاً في نمط البناء من الطابع السكني الأفقي، أي المنازل المنفردة، إلى الطابع العمودي في العمارات السكنية والتجارية".
وتوضح في حديث صحفي أن "سبب ازدياد التوجه لبناء العمارات السكنية هو كثرة الطلب على السكن مقابل قلة العرض، إضافة إلى ارتفاع أسعار الأراضي السكنية والمنازل"، مشيرة إلى ان "بعض العائلات الصغيرة تفضل نمط السكن الحديث ضمن مجمعات سكنية متكاملة تتوافر فيها خدمات الحماية والمرائب والمصاعد وغيرها". وتنوّه المهندسة هديل إلى ان "هناك نهضة عمرانية ملحوظة في بغداد. إذ تتوزع مئات المشاريع الجديدة بين المباني السكنية والمولات التجارية والمكاتب وغيرها، إلا أن العديد منها يفتقر إلى الهوية المعمارية العراقية، ويعتمد على تصاميم عشوائية أو مستوردة بلا طابع محلي"، لافتة إلى أن "هناك محاولات من معماريين شباب لإعادة إحياء الطابع المحلي في مشاريعهم. وأن هذه المحاولات، وإن كانت محدودة، مهمة جداً، لأنها لا تقتصر على استعادة التراث بتصميم نمطي للمنازل القديمة، بل تقدمه بلغة معمارية حديثة، وهو ما تحتاجه مدننا لتشكيل هويتها كما يحدث في كبرى العواصم العالمية".
أمانة العاصمة تتحمل المسؤولية الكبرى
وضعت وزارة الإعمار والإسكان أخيرا، استراتيجية لمشاريعها السكنية المستدامة، تضمنت معايير بيئية مثل استخدام المواد العازلة للحرارة. لكن المتحدث باسم الوزارة نبيل الصفار، يقول أن "اعتماد الطابع المعماري التراثي ليس من مسؤولية الوزارة، بل يدخل ضمن نطاق عمل أمانة بغداد".
ويذكر في حديث صحفي أن "الأمانة نفذت أعمالاً لإظهار الوجه التراثي في بعض المواقع مثل شارعي الرشيد والمتنبي". ورغم ذلك، يبقى غياب الضوابط العمرانية واضحا. حيث يبرز البناء العمودي المتكدس، وتختفي الواجهات الصغيرة والحدائق المنزلية، فيما تتراجع مساحات الارتداد الأمامي للمنازل وتتحول إلى غرف أو غيرها.
غياب الضوابط
في السياق، يرى المهندس المعماري غسان حسن الخفاجي، أن "العشوائية في التصاميم سببها غياب الضوابط التنظيمية والمعايير الخاصة بالعمارة المحلية، ما أدى إلى تدهور واضح في هوية النتاج المعماري المعاصر على صعيد الشكل والأداء والانسجام مع البيئة والسياق الثقافي". ويشير في حديث صحفي إلى أن "العمارة العراقية الجديدة باتت متأثرة بأنماط تصميمية مستوردة لا تنسجم مع السياق الثقافي أو المناخي المحلي، ما أنتج واجهات وتصاميم هجينة تُضعف الشعور بالانتماء"، لافتا إلى أن "التنوع غير المدروس في التصاميم، والاعتماد على مرجعيات معمارية عالمية متباينة دون مراعاة خصوصية المكان، ساهم في خلق بيئة عمرانية تعاني التشتت البصري والفوضى بدلاً من التنوع الإيجابي".
وينوّه الخفاجي إلى أن "التصميمات الحالية تراجعت أيضاً على مستوى الأداء البيئي. إذ لم تعد تستند إلى المبادئ التقليدية التي كانت تستجيب للمناخ، ما أدى إلى زيادة الاعتماد على الحلول التقنية المستوردة المكلفة وذات الأثر البيئي السلبي، فضلاً عن انهيار النسيج الحضري التاريخي".
وفي المدن ذات المراكز التاريخية مثل بغداد والموصل وكركوك وأربيل، تسبب غياب التشريعات المعمارية في حدوث خروقات تصميمية أثرت سلباً على النسيج التاريخي والبيئة البصرية - وفقاً للخفاجي، الذي يرى أن "تراجع الطلب على العمارة التقليدية أدى إلى إضعاف المهارات المحلية وانحسار الحِرف، ما قلل من إنتاج عمارة ذات طابع أصيل".
وتتطلب إعادة بناء هوية معمارية عراقية معاصرة وضع ضوابط تصميمية ملزمة تستند إلى الإرث المحلي وتتبنى مبادئ الاستدامة والتكامل الحضري. إذ ان التحولات في أنماط البناء جاءت أيضاً نتيجة لتغير القوانين، خاصة بعد إصدار أمانة بغداد في 11 كانون الأول 2004 قانوناً يتيح إنشاء طابق ثالث في الدور السكنية، ما أدى إلى تنافر في خط الأفق بين البيوت ذات الارتفاعات المختلفة.
فالمنازل القديمة كانت ترتد بمسافة لا تقل عن خمسة أمتار عن الشارع، بينما يفتقر الكثير من البيوت الحديثة للارتداد بسبب ارتفاع أسعار الأراضي.
مشكلة خطرة
إلى ذلك، تقول المهندسة المعمارية لبان فارس، أن "طراز البناء العشوائي الراهن يمثل مشكلة خطيرة. حيث تكون له تداعيات على المدى الطويل"، مضيفة في حديث صحفي قولها أن "تأثر أصحاب البيوت بالعمارة الغربية خلق أزمة هوية. إذ بُني بعض المنازل بطراز روماني أو قوطي وآخر بطراز بغدادي، وهو ما يعكس أزمة حقيقية في الهوية المعمارية".
وتشير المهندسة إلى أن "بغداد، كونها مدينة تراثية، لا تشبه دبي أو طوكيو، وأن وجود المجمعات السكنية وسطها ينعكس سلباً على هويتها العريقة. يُضاف إلى ذلك عدم مراعاة المناخ في تصميم هذه المجمعات".
وتخلص إلى أن "اختلاف التصاميم وعشوائية بعضها في العمارات السكنية والمباني يفقد المدينة هويتها التاريخية، ما يستدعي وضع خطة شاملة تبدأ بقوانين معمارية واضحة لإنتاج طراز يحافظ على خصوصية بغداد وهويتها".