اخر الاخبار

في وقت يتحدث فيه المسؤولون عن دعم الصناعة الوطنية وخلق فرص عمل، تتجه الإجراءات الحكومية نحو تصفية واحد من أعرق المعامل الصناعية في بغداد، معمل فتاح باشا في الكاظمية. هذا المعمل الذي شكل لعقود طويلة ركيزة في صناعة السجاد اليدوي ومصدر رزق لعشرات العائلات، بات اليوم مهددا بالتصفية أو الاستثمار بصفقات يشوبها الغموض، ما يثير استياء واسعا وتساؤلات عن جدية الحكومة في الحفاظ على المعالم الصناعية والتاريخية، وحماية حقوق العاملين فيها.

مصير العمال: القلق يتزايد

يقول مصدر من العمال فضل عدم ذكر اسمه تحسبا لأي عقوبة قد يتعرض لها لـ "طريق الشعب"، إن مساحة المعمل تبلغ نحو 15 دونما، منها 12 دونما مخصصة للسجاد اليدوي، و3 للصوفية والإدارة العامة، إضافة إلى مساحة فارغة تقدر بثلاثة دونمات ونصف. هذه المساحة كان من المفترض أن تمنح إلى أعمال لبناء شقق سكنية، لكنها عرضت لاحقا على أحد المستثمرين الذي لم يباشر العمل، وبقيت الأرض من دون أي تغيير.

المصدر كشف أن "مصير العمال ما يزال مجهولا، إذ يجري الحديث عن إحالة من يملك خدمة كافية إلى التقاعد، ومنح "مكافأة نهاية خدمة" للبقية، مع تسريحهم من العمل". مضيفا: "كما طرحت وعود بمنحهم قطع أراض في مناطق أخرى، إلا أن أمانة بغداد اعتذرت عن توفيرها، ليطرح بديل هو منحهم أراض في التاجي، لكن من دون خطوات عملية حتى الآن".

وأفاد المصدر أن "العمال من جانبهم لم يقفوا مكتوفي الأيدي، فقد خرجوا بمظاهرة في 24 تموز من العام الماضي، مطالبين بضمان حقوقهم، إلا أن الوزير استدعاهم لاحقا وهددهم مستندا إلى "قانون 14 لسنة 2022 الخاص بالشركات الخاسرة"، والذي يتيح تصفية الشركة وتسريح العاملين بلا استثناء وبلا حقوق. الوزير أكد لهم أنه قد يبحث عن أراض بديلة، لكنه شدد في الوقت نفسه على عدم القبول بأي اعتراضات، ما جعل التهديد وسيلة لكبح مطالبهم".

استثمار معطل ومزاد متوقف

وأوضح المصدر أن "المعمل عرض لاحقا للاستثمار، حيث قدرت قيمة الأرض بحوالي 663 مليار دينار. وبعدها جرى الاتفاق على تأجيرها بمبلغ 9 مليارات دينار لمستثمرين سياسيين. ورغم أن المزايدة رست عليهم، فإنها توقفت لاحقا ولم يدفع المبلغ المتفق عليه، وما تزال اللجنة المسؤولة تحاول إعادة النظر بالموضوع حتى اليوم".

هذا التعطيل جعل مستقبل المعمل عالقا بين الاستثمار غير المنجز، والتهديدات بالتصفية، مع بقاء العاملين بلا ضمانات واضحة لمصيرهم.

حماية المعمل هوية اجتماعية

بدوره يقول المواطن علي حيدر من أهالي الكاظمية لـ "طريق الشعب": إن معمل فتاح باشا لم يكن مجرد مبنى صناعي، بل أحد أهم المعالم التاريخية في منطقة الكاظمية. لعقود طويلة كان مصدر رزق لعدد كبير من الأهالي في الكاظمية والمناطق القريبة، واشتهر بدوره البارز في صناعة السجاد اليدوي الذي حمل اسم العراق إلى خارج حدوده.

أما اليوم، ومع الحديث عن استثماره، نخشى أن يهمل هذا الدور التاريخي والاجتماعي، وأن يختزل الأمر بمصالح ضيقة لجهات سياسية تبحث عن مكاسبها الخاصة بعيدا عن المصلحة العامة. المطلوب أن يكون الاستثمار وسيلة للحفاظ على هوية المعمل، وتطويره بشكل يوفر فرص عمل ويحفظ ذاكرته المرتبطة بتاريخ المنطقة وصناعتها.

سياسة التصفية مستمرة منذ 2003

من جانبه، قال الأمين العام لاتحاد نقابات عمال العراق عدنان الصفار، في تصريح لـ "طريق الشعب" إنه مع الأسف، الصناعة الوطنية في القطاع العام تتعرض إلى سياسات جائرة، سياسات تتناقض مع بناء اقتصاد وطني وصناعة وطنية حقيقية. ومن أبرز هذه السياسات خصخصة أغلبية الشركات أو تصفيتها وإيقافها عن العمل وعدم تطوير خطوطها الإنتاجية، وبالتالي تسريح العاملين بمختلف الأعذار غير الصحيحة.

ومن بين هذه المعامل شركة فتاح باشا في الكاظمية، التي تعرف اليوم بالشركة العامة للصناعات الصوفية، وهي واحدة من أقدم المعامل، إذ تأسست عام 1926، وتعتبر من الركائز الأساسية في الصناعة الوطنية. هذا المعمل يتعرض منذ سنوات طويلة إلى محاولات تصفية وإيقاف العديد من مكائنه وخطوطه الإنتاجية.

العاملون في هذه الشركة يتعرضون إلى ما يمكن وصفه بـ "التسريح الجماعي غير المعلن"، إذ يمنحون رواتب مقطوعة أو رمزية تتراوح بين 150 ألفا إلى 250 ألف دينار، تحت ذريعة أنهم موظفون في "شركات خاسرة". هذه الرواتب الرمزية لا تكفي ولا تصرف عن كامل الشهر، بل تعطى كحل مؤقت لإبقائهم مرتبطين بالعمل من دون أي دعم حقيقي للخطوط الإنتاجية".

ونبّه الصفار إلى أن "وزارة الصناعة، وفق نهجها، تعتبر هذه الشركات "خاسرة" وتعمل على تصفيتها وبيعها كأراض. هذا النهج مستمر منذ عام 2003 وحتى الآن، حيث يواجه معمل فتاح باشا وشركة الصناعات الصوفية تهديدا مباشرا بالإلغاء والتحويل إلى مؤسسات عقارية أو مشاريع تجارية تحت شعار "تطوير مدينة الكاظمية".

وأخيرا، إن ما يتعرض له معمل فتاح باشا ليس مجرد قضية تخص عشرات العاملين المهددين بفقدان مصدر رزقهم، بل هو نموذج صارخ لسياسات حكومية تتعامل مع الصناعة الوطنية بوصفها عبئا بدلا من كونها ركيزة للاقتصاد والتنمية. إن استمرار هذه الإجراءات يثير تساؤلات مشروعة: ما الجدوى من الحديث عن تنويع الاقتصاد إذا كانت أعرق المعامل تصفى وتباع أراضيها في مزادات مشبوهة؟ وأي رسالة توجهها الحكومة للمواطنين حين تترك المصانع التاريخية للاندثار في وقت يتعاظم فيه الفقر والبطالة؟

المطلوب اليوم وقفة وطنية جادة، تبدأ بإيقاف سياسة التصفية العشوائية، مرورا بإعادة تأهيل هذه المعامل وربطها بخطط التنمية، وانتهاء بضمان حقوق العاملين كاملة. فالصناعة الوطنية ليست مجرد أبنية يمكن هدمها أو بيعها، بل ذاكرة وهوية ومصلحة عامة لا يجوز التفريط بها.