اخر الاخبار

لم تعد حالات العنف الأسري في العراق مجرد حوادث معزولة، بل أصبحت ظاهرة متكررة تتصدر عناوين النشرات الإخبارية، وتكشف عن أزمة عميقة في البنية النفسية والاجتماعية للأسر العراقية، خصوصاً في ظل تفشي الفقر، والبطالة، وتعاطي المخدرات، وانتشار السلاح دون ضوابط.

قصص مرعبة

ففي حادثة صادمة قبل أسابيع، قُتل شاب عشريني في محافظة كركوك على يد والدته، وسط أنباء عن خلافات عائلية دفعت الأم إلى ارتكاب الجريمة.

وفي شهر اذار أقدم رجل على قتل زوجته وأطفاله الثلاثة أثناء العشاء، ثم ترك سلاحه داخل المنزل، وسلّم نفسه للشرطة.

وبحسب روايات شهود نقلتها وسائل إعلام محلية، فإن القاتل كان يعمل حارساً شخصياً لأحد القضاة، ويُعرف بحسن سمعته، ولم تكن هناك مؤشرات واضحة على أنه يعاني من اضطرابات نفسية أو مشاكل معلنة، الأمر الذي يثير مخاوف من تحوّل "الهدوء الظاهري" في بعض الأسر إلى انفجار مميت في أي لحظة.

ارتفاع حالات العنف الأسري

وحذر الخبير القانوني مصطفى البياتي من الارتفاع المقلق في معدلات العنف الأسري في العراق، مشيراً إلى أن الإحصاءات الحديثة تكشف عن تزايد في جرائم القتل داخل نطاق الأسرة، سواء بين الأزواج، أو الإخوة، أو حتى بين الآباء والأبناء.

وقال البياتي لـ "طريق الشعب"، إن "هذه الجرائم غالباً ما تكون نتيجة خلافات مالية، أو نتيجة تراكمات نفسية واجتماعية، وقد ترتبط أحياناً بعنف موروث في بيئات معينة".

وأضاف أن "الخطورة الحقيقية تكمن في تزايد استخدام الأسلحة داخل المنازل، حيث تتحول أبسط المشاجرات إلى جرائم قتل لأن وجود السلاح بحد ذاته يشجع على استخدامه لحل الخلافات بسرعة وبدون تفكير"، مؤكدا ضرورة العمل الفعلي على برنامج "حصر السلاح بيد الدولة. هذا الشعار رفعته الحكومات السابقة والحالية".

وبين أن تعاطي المخدرات يعد من أبرز العوامل التي تؤدي إلى تفاقم العنف داخل الأسرة، إذ تُضعف من قدرة الفرد على السيطرة السلوكية، وتجعله أكثر اندفاعاً وعدوانية.

وأوضح ان "القانون العراقي لا يتساهل مع مرتكبي جرائم العنف الأسري، حيث يفرض قانون العقوبات رقم (111) لسنة 1969 وتعديلاته، عقوبات صارمة تصل إلى السجن المؤبد في حال تسبب العنف بموت أحد أفراد الأسرة".

وأضاف "كما أن مشروع قانون العنف الأسري، الذي تم طرحه في البرلمان، يهدف إلى تنظيم التعامل مع هذه الجرائم عبر توفير مراكز حماية للضحايا، وآليات للإبلاغ السريع، بالإضافة إلى فرض أوامر حماية فورية عند وجود تهديد مباشر".

وأكد أن "القضاة يملكون الصلاحية لفرض أوامر حماية، وفرض برامج تأهيل نفسي وسلوكي على الجناة، لحماية الأسرة ومنع تكرار مثل هذه الحوادث".

وختم قائلاً: "نحن بحاجة إلى وعي مجتمعي واسع، وتقييد انتشار السلاح غير المرخص، مع دعم برامج مكافحة المخدرات، لأن المعالجة لا تقتصر على العقوبات وحدها، بل تتطلب حلولاً اجتماعية ونفسية متكاملة لحماية الأسرة العراقية من الانهيار".

قانون يعزز العنف بدل ردعه

من جانبها، حذرت الناشطة النسوية لوديا ريمون من تصاعد معدلات العنف الأسري في العراق، مؤكدة أنه لم يعد مجرد ظاهرة عابرة، بل أصبح "كابوسًا يوميًا" يطارد النساء والفتيات في الكثير من العائلات العراقية، نتيجة تراكمات اجتماعية وثقافية وقانونية، تغذّي هذه الممارسات وتشرعنها.

وتقول ريمون في حديث لـ"طريق الشعب"، ان "العنف الأسري لم يأتِ من فراغ، بل هو نتاج بيئة مجتمعية ذكورية تطبّع العنف ضد النساء وتعتبره مقبولًا، بل ومشروعا في بعض الأحيان. عبارات مثل (الضرب للتأديب) أو (الرجال لا يُعيبهم شيء) أصبحت جزءا من ثقافتنا، ما شجّع على جعل القسوة سلوكًا طبيعيًا في العلاقة بين الرجل والمرأة".

وتنتقد ريمون القوانين الحالية التي تعزز بحسب تعبيرها هذه الثقافة الذكورية، وعلى رأسها المادة 41 من قانون العقوبات، التي تمنح الزوج الحق في "تأديب زوجته"، ما يفتح الباب لتبرير العنف تحت مظلة قانونية.

وتضيف، انه "رغم المطالبات المستمرة بإقرار قانون خاص للحماية من العنف الأسري، لا يزال هذا الملف يُسَوَّف داخل البرلمان، فيما تستمر النساء في دفع الثمن داخل منازلهن، دون حماية قانونية حقيقية".

وترى ريمون، أن مؤسسات إنفاذ القانون لا توفر الحماية الكافية للنساء المعنفات، بل تتعامل مع الضحية باعتبارها سبب المشكلة. وتقول ان "المرأة التي تلجأ إلى الشرطة أو المحكمة تُعامل أحيانا على أنها تهدم بيتها، وليس كضحية تسعى للدفاع عن حياتها. كما أن المحاكم تميل إلى تشجيع النساء على الصبر والتحمل، بدلًا من إنصافهن".

وتشير ريمون إلى أن استمرار الإفلات من العقاب ساهم في تعميق الأزمة، حيث يشعر المعتدي أنه بمنأى عن المحاسبة، ما يدفعه إلى تكرار سلوكه دون رادع.

وتقترح ريمون مجموعة من الخطوات لمعالجة الظاهرة، تبدأ من الجانب التشريعي، ولا تنتهي عند تمكين المرأة، وتشمل: إقرار قانون فاعل لحماية الأسرة من العنف، يتضمن أوامر حماية فورية وملزمة، ويغطي جميع أفرادى الأسرة، بمن فيهم الرجل إذا كان ضحية، وتدريب القضاة ورجال الأمن على التعامل مع هذه القضايا من منطلق حقوق الإنسان لا الأعراف والتقاليد. الى جانب إعادة صياغة الخطاب الثقافي والإعلامي، ليعزز صورة المرأة كشريك مساوٍ للرجل، لا كملكية خاصة. بالإضافة الى "التمكين الاقتصادي والقانوني للنساء، لضمان قدرتهن على اتخاذ قرارات مستقلة والابتعاد عن دوائر العنف".

واختتم ريمون حديثها بالتأكيد على أن إنهاء العنف الأسري لا يقتصر على سن القوانين، بل يتطلب تغييرا جذريا في البنية المجتمعية التي تتغاضى عن العنف، وتحمل المرأة مسؤوليته، وتبرر أفعال المعتدي: "كرامة المرأة ليست محل تفاوض، وإن استمرار الصمت عن العنف جريمة مجتمعية لا تقلّ خطورة عن الفعل نفسه".

غياب الرقابة!

وفي ظل تفاقم ظاهرة العنف الأُسري وتزايد تداعياتها النفسية والاجتماعية، تسلط الناشطة ومديرة إحدى منظمات المجتمع المدني، إلهام قدوري، الضوء على جذور هذه الأزمة، محذرة من انعكاساتها ، لا سيما على الأطفال الذين يشكلون الحلقة الأضعف في بيئة الصراع.

وتقول قدوري في حديثها لـ"طريق الشعب"، إن العنف الأسري غالبا ما ينشأ من التفكك داخل الأسرة، نتيجة غياب التفاهم بين الزوجين، ما يخلق أجواء مشحونة بالمشاجرات والصراخ، وربما يصل الأمر إلى الضرب، وهو ما ينعكس سلبًا على الحالة النفسية للأطفال.

وتضيف ان "الطفل هو خامة بيضاء، وما يراه في المنزل سيعيد تمثيله بطريقته، ليصبح العنف سلوكًا مكتسبًا يُكرَّر عبر الأجيال".

وترى أن البُعد عن الدين والقيم الأخلاقية يُشكّل أحد الأسباب الجوهرية لتصاعد هذه الظاهرة، لكنه ليس الوحيد، فـالجهل، وانعدام الثقافة، وتراجع العادات الإيجابية التي كانت تضبط العلاقات الأسرية في الأجيال السابقة، كلّها عوامل تُسهم في اتساع رقعة العنف داخل المجتمع.

وتوضح قدوري أن كثيرًا من الخلافات البسيطة في العصر الحديث تصل مباشرة إلى المحاكم، حيث تُفكك الأسر لأتفه الأسباب، في وقتٍ كانت فيه الأجيال السابقة أكثر حكمة وصبرا في معالجة النزاعات.

ولا تُغفل قدوري تأثير العوامل الخارجية، وعلى رأسها الإنترنت، في تفشي هذا السلوك، محذِّرة من وصول الأطفال والبالغين على حد سواء إلى محتوى غير أخلاقي أو مشجع على العنف.

وتقول: "هذه المنصات أصبحت وسيلة لتفكيك الأسرة، حيث تُبث برامج مسمومة تروّج للعنف والانفصال، في ظل غياب الرقابة والتوجيه".

وفي السياق ذاته، تشير قدوري إلى أن الأوضاع الاقتصادية الصعبة والبطالة تُعدّ من أبرز الأسباب المباشرة لتزايد العنف داخل البيوت، مؤكِّدة أن الفقر يولّد شعورًا بالإحباط والضغط النفسي لدى الزوج، وغالبًا ما تكون الزوجة أو الأطفال أول ضحاياه.

وتضيف ان "العنف نتيجةٌ حتميةٌ لوضعٍ اقتصادي هشّ، وبيئةٍ خاليةٍ من الأمان والاستقرار".

وتخلص قدوري إلى التأكيد على أهمية الحلول الوقائية في مواجهة هذه الظاهرة، داعيةً إلى ضرورة تعزيز التوعية الدينية والثقافية، وتنظيم ورش عمل ودورات تدريبية لتعليم مهارات التعامل مع الغضب والخلافات الأُسرية، إلى جانب دعم البرامج الاجتماعية التي تُعزز تمكين الأُسر اقتصاديا، بما يوفر بيئة أكثر استقرارا وسلام لجميع أفراد المجتمع.