اخر الاخبار

برغم مرور أكثر من ثلاثة عقود على أزمة الكهرباء في العراق، لا تزال المولدات الأهلية تشكل الحبل الوحيد الذي يتشبث به المواطن لتأمين طاقة لا توفرها الدولة. ومع تصاعد درجات الحرارة، وتدهور البنية التحتية، وتفاقم أزمة المياه، تحولت هذه المولدات من حل مؤقت إلى معضلة بيئية وصحية واقتصادية مزمنة، تفرض أعباءً يومية على حياة العراقيين.

ففي الأزقة المكتظة والدروب السكنية، ينبعث دخان كثيف، وضجيج مستمر، ورائحة احتراق لا تهدأ، لتخلق واقعاً خانقاً يعاني فيه الناس من التلوث الهوائي والضوضائي، واستنزاف المياه، والمخاطر الصحية، وسط غياب رقابة حكومية فعالة، وحلول بديلة ما تزال حبيسة التصريحات والخطط المؤجلة.

وبين ضعف التخطيط الرسمي، وتمدد سوق المولدات العشوائي، يقف العراق أمام تحدٍ مصيري: هل يستمر في تدوير أزمة عمرها ثلاثون عاماً؟ أم يقرر أخيراً الدخول في عصر الطاقة المستدامة؟

وبحسب مسح ميداني أجراه الجهاز المركزي للإحصاء التابع لوزارة التخطيط، وأُعلنت نتائجه في آذار/ مارس 2023، بلغ العدد الكلي للمولدات الأهلية في عموم العراق 48,533 مولدة. وقدّر المسح أن الإيرادات الشهرية لهذه المولدات تجاوزت 3.47 مليار دينار عراقي، أي ما يعادل نحو 2.3 مليون دولار أميركي.

وتُظهر البيانات أن نحو 60 في المائة من هذه الإيرادات تحققت خلال ساعات الذروة، حيث بلغت 2.105 مليار دينار (نحو 1.385 مليون دولار)، فيما توزعت النسبة المتبقية، البالغة 1.374 مليار دينار (900 ألف دولار)، على الفترات خارج الذروة.

أصحاب المولدات يشكون

ويؤكد أحمد وميض، وهو صاحب مولدة أهلية، أن أصحاب المولدات في العراق يواجهون صعوبات نتيجة السياسات الحكومية المتعلقة بتحديد سعر الأمبير، مشيرا إلى أن السعر الرسمي المقّر، والبالغ 8000 دينار فقط، لا يغطي التكاليف الحقيقية لتشغيل المولدات، خاصة في ظل الظروف المناخية القاسية والحرارة الشديدة خلال فصل الصيف.

وأوضح وميض، أن تشغيل المولدة على مدار 24 ساعة يتطلب نفقات عالية تشمل أجور العمال، وتبديل الزيوت بشكل دوري، فضلا عن الصيانة المستمرة نتيجة الأعطال المتكررة، وهي كلها نفقات لا تأخذها التسعيرة الرسمية بنظر الاعتبار.

وأضاف: "نشتغل في كثير من الأحيان بخسارة أو على الحافة، لأن سعر الأمبير لا يتناسب أبدا مع كلفة التشغيل الفعلية".

وعلى الرغم من أن الحكومة قامت، في بادرة دعم مؤقت، بتوفير زيت الغاز (الگاز) مجانا لمدة ثلاثة أشهر، إلا أن هذا الدعم لم يكن بلا مقابل، إذ أرفقته بمجموعة من الرسوم الإضافية التي فُرضت على أصحاب المولدات دون إعلام واضح للمواطنين.

وبيّن وميض، أن من بين هذه الالتزامات تسجيل موقع المولدة في دوائر الكهرباء والماء والضريبة، والتعامل معها كموقع تجاري، وهو ما يعني فرض رسوم شهرية مرتفعة تصل إلى أضعاف ما يدفعه المواطن العادي، حتى وإن كانت المولدة تخدم أحياء سكنية.

ولم تقف المعاناة عند هذا الحد، إذ أشار وميض إلى أن أصحاب المولدات كثيرا ما يتعرضون لغرامات مالية كبيرة من قبل الجهات المختصة بالمشتقات النفطية، وقال: "تُفرض علينا غرامات قد تتجاوز 500 ألف دينار، وقد تُسحب منا الحصة المخصصة من الوقود فقط، لأن هناك من قدم شكوى، حتى لو كانت غير مثبتة".

الطاقة النظيفة

وفي ما يتعلق بمستقبل الطاقة في العراق، أكد وميض أن مشروع الطاقة المتجددة لا يشكل تهديدا حقيقيا لأصحاب المولدات في الوقت الحالي، مرجعا ذلك إلى ضعف الإقبال الشعبي على هذا النوع من المشاريع.

وأوضح أن غالبية المواطنين، وخصوصا ذوي الدخل المتوسط والمحدود، لا يرون الطاقة الشمسية كبديل حقيقي، لأسباب تتعلق أولًا بكلفتها المرتفعة عند التأسيس، وثانيا بعدم توفر المساحات المناسبة في كثير من المنازل، خاصة في المجمعات السكنية التي تفتقر لأسطح كافية. كما أشار إلى أن صيانة منظومات الطاقة المتجددة تُعد تحديا بحد ذاته، إذ لا يتجاوز عمر البطاريات المستخدمة فيها سنتين، واستبدالها مكلف جدا، مما يجعل المشروع غير عملي بالنسبة للأسر العادية.

واختتم وميض بالتأكيد على أن نجاح الطاقة المتجددة في العراق لا يمكن أن يتحقق إلا عبر مشروع حكومي واسع النطاق، يستثمر المساحات الشاسعة غير المستغلة لإنشاء محطات طاقة شمسية مركزية. فبحسب رأيه، الحل الوحيد هو أن تكون هذه الطاقة مدعومة ومنظمة من قبل الدولة، وتقدم للمواطنين ضمن إطار الخدمة العامة، لا أن تترك كخيار فردي لا يستطيع كثيرون تحمّل أعبائه المالية أو الفنية.

تحد بيئي!

الباحث البيئي احمد سلام، يقول إن "المولدات الأهلية في العراق تحولت إلى أحد أكبر التحديات البيئية والصحية اليومية وهي لا تمثل مجرد حل مؤقت لانقطاع التيار الكهربائي بل أصبحت مصدراً دائماً لتلويث البيئة واستنزاف مواردها، والإضرار بصحة الإنسان ومحيطه الحيوي".

ويضيف سلام لـ "طريق الشعب"، أن هذه المولدات التي تجاوز عددها عشرات الآلاف تعمل دون أي التزام بالمعايير البيئية المعمول بها دولياً حيث تنبعث منها غازات سامة وخطرة مثل أوكسيد الكربون والنتروجين والكبريت، فضلاً عن دقائق كربونية مرتبطة بأمراض الجهاز التنفسي، وبعضها مصنف كمادة مسرطنة، ومع الاستخدام المتزايد للنفط الأسود بدل الديزل النقي تتضاعف نسبة التلوث إلى مستويات مقلقة للغاية.

ويشير سلام إلى أن الضرر لا يقتصر على الهواء بل يمتد إلى المياه والتربة حيث ملايين اللترات من المياه العذبة تستهلك يومياً لتبريد محركات هذه المولدات ثم تصرف ملوثة إلى المجاري أو الأرض محملة بالزيوت وبقايا الوقود دون معالجة أو رقابة وهذا يعد استنزافاً مباشراً لمورد مائي شحيح خاصة في ظل أزمة مائية وطنية تتفاقم سنوياً.

ويوضح أن التلوث الضوضائي لا يقاس فقط بمستوى الإزعاج بل بتأثيره النفسي والعصبي على السكان وخاصة الأطفال والمصابين بأمراض حساسية الصوت أو الاضطرابات النفسية، ونتيجة لذلك لدينا حالات موثقة تعاني من مشاكل دراسية وسلوكية بسبب الأصوات المستمرة لهذه المولدات.

ويؤكد سلام أن المولدات الأهلية تشكل أزمة بيئية متكاملة. ويرى أن استمرارها بشكلها الحالي يعني تثبيت نمط حياة مدمر للصحة العامة والبيئة والاقتصاد.

وبناء على ذلك، يجد سلام أن ما نحتاجه اليوم هو إرادة سياسية حقيقية تبدأ من وضع خطة وطنية للتخلص التدريجي من المولدات خلال السنوات القادمة، وتحسين البنية التحتية للطاقة وتوسيع مشاريع الطاقة النظيفة، وفرض اشتراطات بيئية حازمة على أصحاب المولدات تتضمن الفلاتر وكاتمات الصوت وأنظمة تبريد مغلقة بمياه غير صالحة للشرب وإطلاق حملات تفتيش منتظمة من الشرطة البيئية، وربط تراخيص المولدات بمعايير الأداء البيئي.

ويختتم بالتأكيد على أن البيئة في العراق ليست رفاهية بل شرط أساسي للحياة الكريمة، وعليه يجب على الجهات الحكومية أن تتعامل مع هذه القضية كأولوية وطنية لا كمشكلة فرعية مؤجلة، لأن استمرار الوضع بهذا الشكل يجعلنا ندفع كلفة صحية واقتصادية واجتماعية باهظة لنظام مؤقت عمره ثلاثون عاماً.

الحكومة غير جادة

من جانبها، تقول اماني التميمي الخبيرة في مجال الطاقة النظيفة: "لقد أصبحت المولدات، على الرغم من دورها المؤقت في سد العجز بالطاقة، عبئاً بيئياً وصحياً واقتصادياً لا يمكن تجاهله. فهذه المولدات تُطلق كميات كبيرة من الغازات السامة، مثل ثاني أوكسيد الكربون وأكاسيد النيتروجين، وتُسهم بشكل مباشر في تلوث الهواء وزيادة معدلات الأمراض التنفسية، لا سيما في المناطق السكنية المكتظة".

وتضيف التميمي لـ "طريق الشعب"، إن "التحول نحو الطاقة المتجددة لم يعد خياراً، بل ضرورة وطنية لضمان أمن الطاقة وحماية البيئة وصحة المواطنين"، مشيرا الى ان "العراق يمتلك إمكانيات كبيرة في هذا المجال، خصوصاً في الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، نظراً لموقعه الجغرافي المميز وساعات السطوع الشمسي العالية على مدار العام".

وتشير الى انه برغم هذه الإمكانيات، هناك تحديات حقيقية تواجه هذا الملف، منها "ضعف البُنى التحتية، وقلة الاستثمار في قطاع الطاقة النظيفة، وغياب السياسات التحفيزية، إضافة إلى البيروقراطية وتعقيدات الإجراءات الإدارية. كما أن هناك حاجة ماسة إلى رفع الوعي المجتمعي حول فوائد الطاقة المتجددة، وتدريب الكوادر الوطنية لتبني وتشغيل هذه الأنظمة بشكل فعال".

وتختتم التميمي حديثها بالقول: "نحن بحاجة إلى إرادة سياسية قوية، واستراتيجية وطنية واضحة، تتضمن خطوات تنفيذية جريئة، تضع العراق على طريق الاستدامة الطاقية، وتُخرجه من دوامة الاعتماد على المولدات والمصادر التقليدية التي استنزفت موارده وأثرت سلباً على صحته البيئية والاقتصادية"، لكنها تجد ان "الحكومة غير جادة تماما بتبني ملف الطاقة النظيفة حتى الآن".

أعلن مجلس محافظة بغداد، امس الاثنين، عن رفع تسعيرة الأمبير للمولدات الحكومية والأهلية إلى 12 ألف دينار للمولدات التي تستلم حصة وقودية من وزارة النفط، بعد أن كانت 10 آلاف دينار في الشهر الماضي.

وأوضح المجلس أن المولدات التي لا تستلم الحصة الوقودية سيكون سعر الأمبير فيها 15 ألف دينار بدلا عن 12 الف دينار، وذلك في إطار مراعاة ارتفاع تكاليف التشغيل.