تشهد محافظة الأنبار هذه الأيام واحدة من أخطر الأزمات المائية التي مرت بها منذ عقود، في ظل الانخفاض الحاد في الإيرادات المائية لنهر الفرات.
وأدت هذه الأزمة الشديدة إلى انحسار المياه في أهم بحيرتين استراتيجيتين في المحافظة، وهما الحبانية والثرثار، وسط تحذيرات بيئية ومجتمعية من تداعيات كارثية تهدد الأمن الزراعي والمائي في العراق بشكل عام، والأنبار بشكل خاص.
وتعاني محافظات العراق بعامة، أزمة مائية حادة أضرت كثيرا بالقطاعات الزراعية والصناعية والحياة اليومية للمواطنين، ودفعت بالكثير من العائلات التي تعتاش على الزراعة، إلى الهجرة نحو المدن بحثا عن فرص عمل بديلة، ما خلّف فوضى سكانية شديدة.
واستفحلت هذه الأزمة بفعل عوامل عديدة أبرزها التغيّر المناخي وتراجع حصص المياه القادمة من تركيا وإيران بسبب بنائهما السدود، فضلا عن سوء إدارة الموارد المائية، والتلوث البيئي، والزيادة السكانية والطلب المتزايد على المياه.
مستويات خطرة جدا!
في حديث صحفي، يقول رئيس مركز الفرات البيئي صميم سلام، أن "الإطلاقات المائية في نهر الفرات كانت تصل سابقا إلى 500 متر مكعب في الثانية. أما اليوم فقد تراجعت إلى مستويات خطيرة جدا، تتراوح بين 65 و78 متراً مكعباً في الثانية، وتتذبذب أحياناً بين 120 إلى 145 متراً مكعباً في الثانية"، مبينا أن "هذا التذبذب أثر بشكل فعلي وواضح على مستوى الخزين الاستراتيجي للمياه، خاصة في سد حديثة الذي يعد الشريان الحيوي لتغذية مناطق غربي العراق، بما فيها الرمادي والفلوجة والحبانية والكرمة".
ويضيف أن "ما يدخل العراق الآن من مياه قليل جدا، لا يتجاوز في بعض الأوقات 130 إلى 175 متراً مكعباً في الثانية. وهذه كميات ضئيلة لا تفي بالغرض، ولا تكفي حتى للخزن الاستراتيجي في سد حديثة، لا سيما ان الإطلاقات الحالية هي آنية، وتُصرف مباشرة دون خزن، ولا يمكن تقسيمها بين تصريف وخزن، وهذا ما يزيد من تعقيد الأزمة".
ويشير سلام إلى أن "الخطورة لم تعد نظرية أو مؤجلة، بل أصبحت واضحة ومباشرة، في ظل تزايد الطلب على المياه، ليس فقط لأغراض الزراعة، بل على مستوى الاستخدام المنزلي والأمن المجتمعي، وحتى الأمن الوطني".
ويتابع قائلا أنه "كنا نحذر منذ سنوات من عملية تقنين الإطلاقات المائية، ومن التعامل مع نهري دجلة والفرات وكأنهما ليسا من حق العراق، المشكلة الأساسية تكمن في عدم اعتراف تركيا بأن النهرين هما نهران دوليان عابران للحدود، وهو ما يخالف القوانين الدولية. العراق لا يستجدي المياه، بل يطلب استحقاقه المائي المشروع".
متنفذون يستنزفون الخزين المائي!
ويوجه رئيس مركز الفرات انتقادات شديدة لإدارة ملف المياه، متحدثاً عن "وجود خلل كبير في آليات توزيع وإدارة الموارد المائية، وفشل في تبني خطط واضحة لترشيد استخدامها، خاصة في ظل وجود مشاريع زراعية عملاقة وبحيرات أسماك يملكها متنفذون، تستنزف الخزين المائي بشكل كبير".
ويؤكد أنه "حذرنا مراراً وتكراراً من تصريف المياه من السدود الخزنية بهذه الطريقة. تفريغ بحيرة الحبانية وبحيرة الثرثار وغيرهما جاء نتيجة مشاريع خاصة لمتنفذين، ومنها بحيرات أسماك تمتد على مئات الدونمات، ومزارع شلب تُروى بطريقة الري الصيفي (غمر الحقول بالمياه)، ما أدى إلى حلول كارثة فعلية في الخزين الاستراتيجي".
ويوضح أن "الآثار لم تتوقف عند الزراعة، بل امتدت إلى النزوح البيئي. حيث تحذر تقارير بيئية من موجة هجرة عكسية من الريف إلى المدينة نتيجة انعدام الموارد المائية وترك الأراضي الزراعية، ما يعمق ظاهرة التصحر الثانوي، الذي يزحف على المدن بمعدل يفوق 100 دونم سنوياً".
أرقام مرعبة
ويلفت صميم سلام إلى ان "العراق اليوم يعد خامس أكثر دولة في العالم تأثراً بالتغيرات المناخية، وثاني أكثر دولة تعاني الشح المائي والتصحر، وهذه أرقام مرعبة تؤكدها التقارير الأممية. المشكلة لم تعد فقط زراعية أو فنية، بل هي أمن قومي ومجتمعي حقيقي"، مشيرا إلى أن "الوضع في الأنبار يتطلب خطة طوارئ وطنية لإعادة النظر في إدارة المياه، وحماية البحيرات والسدود من الانهيار الكامل، وضمان حصة عادلة من المياه للمحافظة وسكانها".
وينوّه بأن "كل مخلوق ينمو على ضفتي نهر الفرات يتطلب حصة مائية، النمو السكاني والاقتصادي والصناعي يحتاج إلى موارد مائية مستقرة، وأي تقصير في هذا الجانب يهدد الأمن المائي والاستقرار المجتمعي في الأنبار والعراق ككل".
وفي وقت سابق، حذرت مجلة "فوربس" الأمريكية في تقرير لها من "جفاف غير مسبوق" يصيب العراق ودول المنطقة بشكل عام، والتي توصف بأنها من الأكثر جفافا على الأرض، لافتة الى ان تداعيات استمرار ذلك، ستكون مدمرة لهذه الدول.
ولفت التقرير إلى أن الاحتياطيات الاستراتيجية المائية في العراق تراجعت الى 10 مليارات متر مكعب فقط، ما يمثل نصف ما يحتاجه البلد خلال فصل الصيف والمقدر بـ18 مليارا، واقل بكثير من 20 مليارا التي كانت متوفرة في العام الماضي، مبيّنة ان من أبرز أسباب ذلك التراجع تقلص تدفقات الأنهار وشح الأمطار وضعف ذوبان الثلوج.
جدير بالذكر أن مرصد العراق الأخضر المتخصص في شؤون البيئة، حذّر قبل أيام من خطورة الوضع المائي في العراق خلال الشهور المقبلة، مبينا أن المياه أصبحت تمثل "تحدياً وجودياً" في عموم المحافظات دون استثناء.
ومما قاله في بيان صحفي أن "الجفاف وصل إلى 80 في المائة في مناطق الأهوار، ما أدى إلى نفوق الكثير من الكائنات الحية والجواميس وهجرة الفلاحين لأراضيهم، ناهيك عن الجفاف الذي أصاب الكثير من المناطق السياحية في الإقليم والتي كان يقصدها أبناء محافظات الوسط والجنوب في فصل الصيف من أجل الاستمتاع بالأجواء"، منوهاً إلى أن "درجات الحرارة باتت في تلك المناطق أعلى مما يسجل في المناطق الجنوبية".
وأكد أن "كل هذه المعاناة من الوضع المائي السيء وفصل الصيف لم يدخل ذروته حتى الآن"، مرجحاً أن تكون الشهور المقبلة "قاسية على جميع المحافظات بسبب قلة المياه، ما لم تتدخل الحكومة في إيجاد صيغة لحل هذه المسألة مع الدول المجاورة بزيادة الإطلاقات المائية والاتفاق على حصة ثابتة".