ألقى علي كاظم فواز نظرة وداعٍ أخيرة على محله الكائن في منطقة بغداد الجديدة، بعد أن اضطر إلى إغلاقه، إثر رفع بدل الإيجار إلى 4 آلاف دولار شهرياً. وهو مبلغ يؤكد أنه من المستحيل تأمينه.
يقول علي في حديث صحفي، أنه كان يدفع شهريا لصاحب العقار مليون ونصف المليون دينار، ورغم أن المبلغ كبير، خاصة إذا أضيفت إليه أجور العاملين والضرائب وغيرها من النفقات، إلا انه كان يستطيع جمعه، بالشكل الذي يؤمّن دخلا بسيطا لعائلته.
ويضيف بالقول "أما المبلغ الجديد الذي فرضه صاحب العقار، فهو يفوق قدرتي على الدفع"، لافتا إلى أن "صاحب العقار أصر على سداد المبلغ بالدولار حصرا، ولم يتراجع عن ذلك رغم محاولات التفاوض وتدخل العديد من الناس".
وتُظهر حالة علي، جانباً من أزمة متفاقمة تشهدها بغداد ومحافظات أخرى، تتمثل في ارتفاع أبدال إيجار المحال التجارية إلى مستويات غير مسبوقة. إذ تصل في بعض الحالات إلى آلاف الدولارات شهريا، حتى في المناطق التي يسكنها الفقراء وذوو الدخل المحدود، الأمر الذي اضطر العديد من المستأجرين إلى إغلاق أعمالهم أو نقلها لمناطق أخرى.
وبات من الشائع أن يرفض بعض أصحاب العقارات تقاضي الإيجارات بالدينار العراقي، مفضلين الدولار، في ظل غياب تشريعات حديثة تنظم العلاقة بين المؤجر والمستأجر، خصوصاً في العقارات التجارية.
القانون لا يواكب المتغيرات
لا تزال العلاقة التعاقدية بين المؤجرين والمستأجرين تُنظَّم وفق قانون إيجار العقار رقم 87 لسنة 1979، الذي لا يتضمن نصوصاً واضحة تلزم بتسعير الإيجارات بالدينار العراقي، أو تضع سقفاً لبدلات الإيجار، بل يترك الأمر لتقدير الطرفين.
في هذا الصدد يقول المستشار القانوني وليد الشبيبي، أن "قانون الإيجار يتخصص في العقارات السكنية. أما العقارات المؤجّرة لأغراض تجارية أو صناعية فتخضع لأحكام القانون المدني رقم 40 لسنة 1951، وكلا القانونين يهدفان لحماية المستأجر، لكن التطبيق العملي يترك المستأجر تحت رحمة السوق".
ويتابع في حديث صحفي قوله أنه "في السابق، كانت العقارات السكنية والتجارية تخضع لقانون رقم 78 لسنة 1979، الذي كان يمنح حماية أوسع للمستأجرين، أما الآن فلا توجد ضوابط قانونية واضحة لتحديد أبدال الإيجار، ما يدفع بعض المستأجرين إلى توقيع عقود طويلة الأمد تصل إلى 15 سنة أو أكثر، هرباً من تقلبات الأسعار".
ويشير الشبيبي إلى انه "بإمكان صاحب العقار تقديم طلب لتقييم الإيجار من قبل هيئة الضرائب إذا شعر بالغبن بسبب العقد الطويل، على ألا يتجاوز التقييم نسبة معينة من بدل الإيجار السابق"، داعيا الدولة إلى التدخل لدعم الفئات الهشّة من خلال بناء مجمعات تجارية وصناعية وتأجيرها بأسعار مناسبة.
ويرى أن "الحل يكمن في دخول الدولة كمستثمر، لأن الدستور لا يسمح بالتدخل في الملكية الخاصة أو فرض شروط عليها، وهو ما يمنعها من وضع ضوابط مباشرة على الإيجارات".
الدولار يطيح بالمشاريع الصغيرة
وتتكرر قصص مستأجري العقارات التجارية في بغداد، من المنصور إلى الكرادة واليرموك وشارع الربيعي. حيث ارتفعت الإيجارات بشكل كبير، وبدأت تُسعَّر بالدولار، ما دفع العديد من أصحاب المحال والمطاعم إلى الإغلاق أو الانتقال.
يقول كاظم حسن زامل أنه "استأجرت مطعماً شعبياً في الكرادة قبل ثلاث سنوات بمبلغ مليون ونصف المليون دينار شهرياً، لكنني فوجئت قبل شهرين بزيادة الإيجار إلى 3 آلاف دولار. لذلك لم أتمكن من الدفع فاضطررت إلى إغلاق المطعم والبحث عن مكان آخر".
ويوضح في حديث صحفي أنه بعد انتهاء العقد عرض عليه المالك تجديد الإيجار بالمبلغ الجديد أو المغادرة، فاختار الخيار الثاني، لأنه لا توجد جهة قانونية تحميه من هذا الاستغلال.
وفي مناطق أخرى مثل أبو دشير، تواجه صاحبة محل الخياطة فاطمة حسن تحديات مماثلة. فقد استأجرت محلاً صغيراً بمبلغ 200 ألف دينار شهريا، ثم ارتفع الإيجار تدريجياً حتى وصل إلى 500 ألف دينار، ما اضطرها إلى إغلاق المحل.
تقول فاطمة في حديث صحفي أنه "لم أجد محلاً ببدل إيجار مناسب، فقررت استقبال زبوناتي في منزلي، وعلّقت لافتة على الجدار لهذا الغرض".
من يحمي المستأجر؟!
تحت غطاء قانوني مبني على مبدأ "العقد شريعة المتعاقدين"، يواصل بعض أصحاب العقارات فرض أبدال إيجار مرتفعة، ما يضع المستأجرين في موقف ضعيف قانونياً.
وفي ظل غياب قوانين تحدد سقفاً لبدلات الإيجار أو تمنع تسعيرها بالدولار، يضطر العديد من المواطنين إلى الرضوخ لأصحاب الأملاك.
مناشدة الى البرلمان
من جانبه، يُعلّق الخبير الاقتصادي حيدر جودي على هذه الظاهرة بالقول، أن "أصحاب العقارات يفضلون الدولار لحماية قيمة ممتلكاتهم في ظل عدم استقرار الدينار العراقي، ولا يوجد ما يمنعهم قانونياً من ذلك".
ويلفت في حديث صحفي إلى أن "الفجوة بين سعر الصرف الرسمي والموازي تؤثر سلباً على الأنشطة التجارية والمالية"، مؤكداً أنه "لا يمكن تحقيق استقرار اقتصادي دون خطة مالية واضحة تهدف إلى تقليص الفجوة بين السعرين، وتعزيز الثقة في العملة المحلية".
ويُطالب جودي مجلس النواب بإعادة النظر في قوانين الإيجار التجاري، وإصدار حزمة إصلاحات تشمل تحديد سقف للإيجار ومنع التسعير بالدولار بهدف التقليل من التلاعب بالأسعار.
ما عذر أصحاب العقارات؟
من جهتهم، يبرر أصحاب العقارات رفع أبدال الإيجار بـ "ارتفاع تكاليف امتلاك العقار نفسه". حيث يرى حسين حميد، وهو صاحب عقار في مجمع تجاري ببغداد، أن "الإيجارات المرتفعة تعود إلى التزامات مالية ضخمة على المالك".
ويوضح في حديث صحفي أنه "إذا كان الإيجار الشهري ألف دولار، فأنا مطالب بدفع 400 دولار شهرياً كقسط للبنك أو صندوق الإسكان، فضلاً عن دفعات سنوية تصل إلى 20 ألف دولار للمستثمر، وبالتالي لا أستفيد من العقار إلا بعد سنوات طويلة".
ويضيف حميد قوله أنه "لا يمكنني تخفيض الإيجار بمعزل عن بقية الملاك في المجمع، لأن ذلك سيضر بمصالحهم، ورغم كل هذا، فإن أبدال الإيجار لا تمثل حتى ربع أو ثلث في المائة من قيمة العقار".
وأدى غياب القوانين الحديثة إلى إطلاق يد أصحاب العقارات في تحديد الأسعار والعملة، دون أي ضوابط قانونية أو مراعاة للظروف الاقتصادية الصعبة التي يعيشها العديد من المواطنين.
في المقابل، وجد المستأجرون أنفسهم أمام خيارين أحلاهما مرّ: القبول بشروط مجحفة، أو الإخلاء القسري.
ويظهر الواقع الحالي لسوق العقارات التجارية في العراق اختلالاً واضحاً في موازين القوى بين المؤجر والمستأجر، وسط قوانين قديمة لا تواكب التحديات الاقتصادية الراهنة ولا تحاسب المتلاعبين ومستغلي الأوضاع الاقتصادية في البلاد - وفقاً لمراقبين اقتصاديين.
ومع استمرار تسعير الإيجارات بالدولار وغياب أي حماية قانونية حقيقية، تبقى الفئات الهشّة من أصحاب المشاريع