أثار قرار الحكومة تصفية عدد من الشركات الزراعية العامة، في إطار ما وصفته بـ"إصلاح هيكلية القطاع العام"، موجة اعتراضات وتحذيرات من تداعيات كارثية على القطاع الزراعي والأمن الغذائي في البلاد.
وجاءت هذه التحركات الحكومية عقب أولى جلسات لجنة إعداد الرؤية الشاملة بشأن التعامل مع الشركات العامة، المنعقدة بتاريخ 25 أيار 2025، والتي أعلنت عنها الأمانة العامة لمجلس الوزراء في بيان رسمي.
وبحسب البيان، فإن اللجنة، وبناءً على توصيات اللجنة الزراعية الصناعية، قررت إعادة تصنيف شركة ما بين النهرين العامة للبذور كشركة إنتاجية، تنفيذًا للفقرة (ثانياً) من خطة هيكلة الشركات العامة المملوكة للدولة لعام 2024. وفي المقابل، قررت اللجنة المباشرة بالإجراءات القانونية اللازمة لتصفية الشركة العراقية لإنتاج البذور التابعة لوزارة الزراعة، معتبرة أن هذه الخطوة تأتي ضمن مساعي الحكومة لتحديث القطاع العام بما يتلاءم مع متطلبات التنمية الاقتصادية.
لكن الحدث الأكثر إثارة للجدل جاء مع قرار تصفية الشركة العامة للتجهيزات الزراعية، والذي فجّر موجة غضب داخل أوساط نيابية ومهنية، اعتبرت القرار تهديداً مباشراً لمستقبل الزراعة في العراق.
تهديد لهيكل الزراعة
النائب ثائر مخيف الجبوري، عضو لجنتي الزراعة والأقاليم النيابيتين، وصف القرار بأنه "ضربة قاسية" لأحد أهم أعمدة دعم الزراعة في العراق. وقال الجبوري في بيان رسمي إن الشركة ليست فقط شريكًا رئيسيًا للفلاحين في جميع المحافظات، بل تدير أيضًا عقودًا قائمة وأخرى قيد التنفيذ، وتشغّل ما يزيد على 6000 موظف يتقاضون رواتبهم من تمويل ذاتي، يقدّر بأكثر من 6.5 مليار دينار شهرياً، دون تحميل خزينة الدولة أي أعباء.
وحذّر الجبوري من أن تنفيذ قرار التصفية سيؤدي إلى احتكار السوق من قبل التجار، وسيتسبب بارتفاع أسعار المواد الزراعية الأساسية كالبذور والأسمدة والمكائن، ما سيثقل كاهل الفلاح العراقي الذي يعاني أصلاً من تحديات بنيوية، أبرزها شح الدعم الحكومي، وتقلبات السوق، والمناخ، ومحدودية المياه.
وأكد الجبوري رفضه التام لهذا التوجه الحكومي، داعيًا إلى مراجعة القرار وتقييم تأثيراته الاقتصادية والاجتماعية بعناية، مشيراً إلى أن الإجراء "يشكل تهديدًا مباشرًا للأمن الغذائي الوطني وهيكل الدولة الزراعي".
يهدد بنية الدولة الإنتاجية
وحذّر المهندس الزراعي الاستشاري عبدالكريم عبدالله بلال من تداعيات قرار مجلس الوزراء الأخير القاضي بحل وتصفية الشركة العامة للتجهيزات الزراعية، معتبراً أن القرار يمثل إصراراً غير مبرر على الإجهاز على ما تبقى من أسس عملية لبناء القطاع الزراعي في العراق، وزيادة معاناة الفلاحين والمزارعين.
وأكد بلال في حديث لـ"طريق الشعب"، أن قرار تصفية شركة التجهيزات الزراعية يُعد خطوة خطرة وغير مدروسة، إذ إن الشركة تُعد من أهم مؤسسات القطاع العام الممولة ذاتياً، وقد تأسست وسُجلت في 24 شباط 1998 استناداً إلى قانون وزارة الزراعة رقم 76 لسنة 1987 وقانون الشركات رقم 22 لسنة 1997، برأسمال قدره 500 مليون دينار، وتمتلك 15 فرعاً في مختلف المحافظات، ويعمل فيها نحو 6000 موظف.
وقال أن الهدف الرئيس من تأسيس الشركة هو دعم القطاع الزراعي وصولاً إلى الاكتفاء الذاتي وتحقيق الأمن الغذائي، وذلك عبر توفير المستلزمات الزراعية من بذور وأسمدة ومبيدات وآلات ومعدات، وبيعها بالتصريف لتسهيل حصول الفلاحين عليها، فضلاً عن علاقاتها الوثيقة مع شركات محلية وعربية وأجنبية رصينة، وبضائعها المستوردة من مناشئ خاضعة للفحص والسيطرة النوعية. كما توفر الشركة خزيناً احتياطياً يقي الفلاحين من مضاربات السوق وتلاعب تجار القطاع الخاص، وتمتلك قسماً للتطوير وحق شراء براءات الاختراع ومتابعة أحدث التطورات العلمية في المجال الزراعي.
وزاد بلال بالقول أن قرار تصفية الشركة لا ينسجم مع متطلبات الواقع العملي أو العلمي، متسائلاً: ما مصير 6000 موظف يعملون في الشركة وتعتمد رواتبهم على التمويل الذاتي دون أن يكلّفوا الدولة ديناراً واحداً؟ وماذا سيحلّ بمخزون الشركة من الأسمدة والبذور والمبيدات والآلات والمكائن؟ وهل ستُعرض في مزادات علنية وتُباع بأسعار بخسة رغم أنها كلفت الدولة والشركة أموالاً طائلة؟
وتساءل بلال عن مصير البنى التحتية المنتشرة في المحافظات والعقود المبرمة مع عشرات الشركات المحلية والعربية والدولية، ومصير الفلاحين الذين يعتمدون على هذه الشركة في تأمين احتياجاتهم الزراعية؟
واختتم المهندس الزراعي الاستشاري بالقول: "الأهم من كل ذلك، من سيتولى دعم الفلاح والمزارع والعملية الزراعية بعد هذا القرار؟ هل هناك قرار خفي بإنهاء القطاع الزراعي برمته؟ هذه أسئلة لا تزال تنتظر إجابات واضحة من الجهات المعنية"، متمنيا على مجلس الوزراء الغاء القرار والإبقاء على شركة التجهيزات الزراعية ودعمها لتواصل أداء دورها الحيوي في خدمة الزراعة والمزارعين، وتحقيق الاكتفاء الذاتي، وضمان الأمن الغذائي لأبناء الشعب العراقي، انسجاماً مع مبررات تأسيسها وأهدافها الوطنية.
خطوة غير موفقة
من جانبه، حذر مستشار اتحاد الجمعيات الفلاحية أحمد القصير من خطورة القرارات الحكومية التي تستهدف تقليص دور المؤسسات الزراعية العامة، معتبراً أنها لا تصب في مصلحة التنمية الزراعية المستدامة، بل تمهد الطريق أمام احتكار السوق من قبل التجار، على حساب الأمن الغذائي الوطني.
وقال القصير إن "معظم القرارات المتعلقة بالقطاع الزراعي، بشقيه النباتي والحيواني، لا تصب في مصلحة تنمية هذا القطاع الحيوي"، مضيفاً أن "هناك توجه واضح نحو الخصخصة، ومحاولات لإضعاف أي منتج وطني يمكن أن يساهم في دعم الأمن الغذائي، بحجج وذرائع واهية".
وأشار إلى أن "الشركات الزراعية، رغم ما تعانيه من نواقص وقلة دعم، ما زالت تقدم خدمات أساسية تتعلق بالبذور والأسمدة والآلات الزراعية، بدعم من المصرف الزراعي"، موضحاً أن "الآلات التي تقدمها تلك المؤسسات تخضع لشروط مالية ميسرة، وهو ما يمثل دعماً حقيقياً للفلاحين".
وانتقد القصير ما وصفه بـ"الخطوة غير الموفقة" لتقليص دور هذه المؤسسات، محذراً من أن "التجار سيسيطرون على السوق دون أي منافسة أو رقابة، ما يتيح لهم التحكم الكامل بالأسعار صعوداً وهبوطاً"، مؤكداً أن "من دفع باتجاه هذا القرار هم ذاتهم التجار الذين يسعون لتحقيق مصالحهم الخاصة من خلال العلاقات والوساطات".
ودعا القصير إلى "إعادة النظر في القرار"، مشدداً على ضرورة أن "تتبنى الدولة بدائل حديثة وتقنيات جديدة لدعم القطاع الزراعي، لا أن تقلص المؤسسات القائمة التي تضم آلاف الموظفين، وتُعدّ ركيزة أساسية في تقديم المستلزمات الزراعية".
وختم بالقول إن "هذا القرار لا يخدم سوى مصالح التجار، ويهدد بتخريب القطاع الزراعي، في وقت يحتاج فيه العراق إلى تنمية زراعية مستدامة تضمن الأمن الغذائي والسيادة الزراعية".