يُعد القطاع الصحي في العراق واحداً من أكثر القطاعات تدهوراً وتأزماً في مرحلة ما بعد 2003، إذ تكشف مؤشرات دولية وتصنيفات لمنظمات صحية عالمية عن تراجع العراق في الأداء الصحي مقارنة بجيرانه وحتى ببعض الدول ذات الموارد المحدودة.
فبحسب تقرير مؤشر النظم الصحية الصادر عن منظمة الصحة العالمية والبنك الدولي، لا يزال العراق يتذيل قوائم الدول من حيث جودة الرعاية الصحية، ومستوى الإنفاق العام على الصحة، وعدالة التوزيع الجغرافي للمؤسسات الطبية.
ما الاسباب؟
ويعزو مختصون تذيل العراق للمؤشرات الدولية من حيث توفر الخدمات، الى اسباب عدة اهمها، انه برغم الزيادة السكانية الكبيرة، لم يواكب النظام الصحي هذا النمو لا في البنى التحتية ولا على مستوى الكوادر، ما أدى إلى ضغط هائل على مؤسسات متهالكة أصلاً. وتفاقمت الأزمة بفعل ضعف التخطيط، وهجرة الكفاءات، وتراجع الإنفاق الاستثماري، في ظل غياب رؤية إصلاحية واضحة وشاملة.
تلكؤ ملف الرعاية الصحية
في هذا الصدد، يقول الدكتور فاضل المندلاوي، أن العراق يُصنَّف ضمن الدول المتأخرة جداً في تقديم خدمات الرعاية الصحية الأولية، مشيراً إلى أن هذا التأخر يعود إلى عدة أسباب، في مقدمتها النقص الحاد في عدد المؤسسات الصحية الأساسية، وعدم توفر التغطية الصحية الشاملة في جميع مناطق البلاد.
ويضيف المندلاوي في حديث لـ "طريق الشعب"، ان “العالم اليوم يتجه نحو تطبيق مبدأ الرعاية الصحية للجميع أو ما يُعرف بالتغطية الصحية الشاملة، وهو ما يتطلب وجود مؤسسات صحية يمكن للمواطن الوصول إليها بسهولة في مختلف مناطق العراق، إلا أن هذا الشرط لا يزال غير متحقق على أرض الواقع”.
ويشير إلى أن "عدد المراكز الصحية المنتشرة حالياً في العراق لا يتجاوز 1650 مركزاً، وهو رقم غير كافٍ لتغطية الاحتياجات السكانية والجغرافية"، مضيفاً أن هناك "مناطق نائية بعيدة تماماً عن أقرب مركز صحي، ما يصعب على السكان تلقي أبسط خدمات الرعاية الأولية”.
وشدد المندلاوي على أن العراق "يحتاج إلى ما لا يقل عن 2000 مركز صحي رئيسي موزع بشكل عادل على جميع المحافظات، لتحقيق حدٍّ أدنى من التغطية الصحية الشاملة".
ويواصل القول أن الاهتمام ببناء أو ترميم المستشفيات لا يمكن اعتباره مؤشراً كافياً على تطور النظام الصحي، مبيناً أن “المراكز الصحية تقدم خدمات أولية فقط، بينما المستشفيات تقدم الرعاية الصحية الثانوية، مثل العمليات والتحاليل المتقدمة والإقامة في المستشفى”.
ولفت إلى أن "النقص لا يقتصر على المراكز الصحية، بل يشمل المستشفيات ايضا، إذ أن كثيراً من الأقضية ما تزال تفتقر إلى مستشفى عام، ما يعيق سكان النواحي والقرى من الوصول إلى خدمات الرعاية التخصصية".
وبالنسبة للتحديات فهي من وجهة نظره "لا تقتصر على البنية التحتية فقط، بل تشمل نقص الكوادر المدربة، وغياب الأجهزة الطبية الحديثة، فضلاً عن الحاجة إلى تجهيز غرف العمليات وتأثيث المؤسسات الصحية الجديدة".
ويختتم المندلاوي حديثه بالتأكيد على ضرورة "زيادة التخصيصات المالية لوزارة الصحة، ولا سيما في جانب الموازنة الاستثمارية، إذ أن أغلب موازنات الوزارة الحالية تذهب نحو النفقات التشغيلية، في حين أن التطوير الحقيقي للخدمات الصحية يتطلب استثماراً حقيقياً في البنى التحتية والمعدات والكوادر".
غياب في الرؤية والتخطيط
من جهته، قال الطبيب زهير العبودي، أن القطاع الصحي في العراق لا يزال يسير بخطى متعثرة في غياب رؤية إصلاحية تقدمية، مشيراً إلى أن التحديات الصحية اليوم لم تعد محصورة في نقص البنى التحتية فقط، بل في ضعف التخطيط طويل الأمد وغياب أدوات الإدارة الحديثة.
وقال العبودي في حديث لـ"طريق الشعب"، إن “العراق يشهد نمواً سكانياً متسارعاً، يترافق مع توسع عشوائي في العمران ونقص حاد في الخدمات، وهو ما فرض ضغطاً هائلاً على المؤسسات الصحية التي بقيت كما هي من حيث العدد والتجهيز، رغم تضاعف الحاجة لأكثر من خمس مرات في بعض المناطق”.
وأوضح أن "المراكز الصحية والمستشفيات القديمة باتت عاجزة عن الاستجابة لمتطلبات الواقع الصحي الحديث، ليس فقط بسبب تهالك مبانيها، بل أيضاً نتيجة غياب برامج التحديث والتأهيل الشامل، سواء على مستوى الأجهزة أو نظم الإدارة".
وأشار العبودي إلى أن “تحسين الخدمات لا يكون ببناء مستشفى جديد فقط، بل بوجود كادر طبي مؤهل قادر على إدارة وتشغيل هذه المؤسسة”، مضيفاً أن "العراق لا يزال يعاني من نقص كبير في عدد ونوعية الكوادر الطبية، الأمر الذي يضعف فعالية أي مشروع صحي جديد مهما كانت بنيته قوية".
ولفت إلى أن منظومة الصحة بحاجة إلى "مشروع إصلاح وطني يشمل تطوير أنظمة التوعية الصحية وتطبيق أدوات حديثة، مثل “السجل الصحي الإلكتروني”، الذي يمكّن المواطن من الاحتفاظ بتاريخه الطبي والوصول إلى خدمات الرعاية بطريقة منظمة، ما يخفف العبء على المؤسسات الصحية".
وزاد بالقول انه “يمكن أن تُختصر هذه الخطوة من خلال تفعيل الحكومة الإلكترونية في القطاع الصحي، وهو ما من شأنه إحداث نقلة نوعية في تنظيم العلاقة بين المواطن والمنظومة الصحية، وتحسين كفاءة التوزيع والمتابعة”.
ورغم تسجيل بعض التحسن في الخدمات الصحية، إلا أن العبودي وصف وتيرتها بالبطيئة جداً، قائلاً: ان “التطور موجود، لكن لا يتماشى مع مستوى التحديات وان المستشفيات القديمة تحتاج إلى إعادة تصميم يتناغم مع المعايير الطبية المعاصرة، في حين تحتاج المنشآت الجديدة إلى كادر مؤهل أكثر مما تحتاج إلى أجهزة”.
ورهن المتحدث تحسين الوضع الصحي في العراق بايجاد جهد حكومي مركّز، يقوم على تخطيط بعيد المدى وتوزيع ذكي للموارد، وليس مجرد إجراءات ترقيعية مؤقتة".
أزمة بحاجة لخطة طويلة الأمد
الى ذلك، اكد الطبيب محمد زاهر، المختص في إدارة النظم الصحية، أن أزمة الرعاية الصحية الأولية في العراق ليست مؤقتة أو عرضية، بل هي بنيوية وتتطلب إصلاحاً هيكلياً شاملاً يبدأ من السياسات الصحية وينتهي بالبنى التحتية، مشيراً إلى أن المؤشرات الحالية تدل على تدهور مقلق في جودة الخدمات المقدمة للمواطن، خصوصاً في المناطق الطرفية والريفية.
وقال زاهر لـ"طريق الشعب"، إن “العراق يعاني من فجوة واضحة بين ما ينبغي أن يكون عليه النظام الصحي وفق المعايير الدولية، وما هو قائم فعلياً من حيث عدد المراكز الصحية، توزيعها، وتأهيلها”.
وأضاف أن النظام الصحي لدينا ما يزال يفتقر إلى الركائز الأساسية للتغطية الصحية الشاملة، أبرزها: عدالة التوزيع الجغرافي، توفر الكوادر الطبية الكفوءة، والاستقرار في تمويل القطاع الصحي.
وأوضح زاهر، أن "عدد المراكز الصحية الحالية لا يتجاوز 1650 مركزاً، وانها لا يكفي بأي حال لتغطية الحاجة الفعلية، خاصة إذا ما علمنا أن أكثر من 35% من السكان يعيشون في مناطق ريفية أو شبه ريفية، حيث يصعب الوصول إلى الخدمات الصحية الثانوية".
وشدد على أن “الوصول إلى مركز صحي لا يجب أن يكون رحلة شاقة تقطع فيها العائلات عشرات الكيلومترات، بل خدمة متاحة على بُعد دقائق في الحد الأدنى”.
وأشار إلى أن معيار منظمة الصحة العالمية "ينص على ضرورة إيجاد مركز صحي واحد لكل 10 آلاف نسمة في المناطق الحضرية، ومركز لكل 5 آلاف نسمة في المناطق الريفية".
وتابع القول انه “لو طبّقنا هذا المعيار بدقة، فإن العراق يحتاج إلى أكثر من ألف مركز صحي إضافي، مع خطة خمسية لإنشاء مراكز جديدة وتجهيزها وفق المعايير الفنية”.
ونوّه زاهر إلى أن النقص في عدد المستشفيات "لا يقل اهمية كذلك، خاصة مع تزايد عدد السكان وتراكم الحالات المرضية غير المزمنة والمزمنة، فالعديد من الأقضية لا تحتوي على مستشفى واحد مجهز بالكامل، وهذا يعني أن المرضى يضطرون للسفر إلى مراكز المحافظات لتلقي العلاج، مما يؤدي إلى تأخر تشخيص الحالات أو تفاقمها”.
كما دعا إلى "رفع الموازنة الاستثمارية لوزارة الصحة، والتركيز على بناء مؤسسات صحية متكاملة، وليس مجرد إنشاء مبانٍ دون تجهيز أو تشغيل".
وأوضح أن “الاستثمار في الصحة لا يقتصر على البنى التحتية، بل يشمل الكوادر، والتجهيزات، ونظم الإدارة الصحية”، مبيناً أن "العراق بحاجة ماسة إلى مراكز تدريب طبية محدثة، وإعادة توزيع الكفاءات الطبية بطريقة تضمن الخدمة العادلة لجميع المواطنين".
واختتم زاهر حديثه بالقول: “لا يمكن الحديث عن تنمية حقيقية في العراق دون نظام صحي متماسك وعادل، اما اصلاح القطاع الصحي، فيجب أن يكون أولوية وطنية، لا مجرد بند في الموازنة يُنظر إليه كعبء، بل كاستثمار مباشر في كرامة الإنسان واستقرار المجتمع".