اخر الاخبار

رغم ما يواجهه العراق من تحديات سياسية واقتصادية معقدة، يبقى التدهور البيئي واحداً من أخطر الأزمات التي تتفاقم بصمت، وسط غياب المعالجات الجذرية وتراجع اهتمام صناع القرار.

فالتلوث بشتى أنواعه - سواء في المياه أو الهواء أو التربة - بات يشكل تهديداً يومياً لحياة الملايين، بينما تتنوع أسبابه من دون رادع: انبعاثات المصانع، نفايات غير معالجة، انحسار المساحات الخضراء، ورداءة إدارة الموارد البيئية.

وتعاني المدن العراقية، وعلى رأسها العاصمة بغداد، من نسب تلوث مرتفعة تضعها في مصاف المدن الأكثر تضررًا على مستوى المنطقة، وسط ارتفاع ملحوظ في الأمراض التنفسية وتراجع جودة الحياة.

وعلى خلفية التغيّر المناخي والتصحر المزمن والعواصف الغبارية المتكررة، يتزايد الضغط على بنية صحية وبيئية هشّة أصلًا، في وقتٍ لا تزال فيه السياسات البيئية المعتمدة عاجزة عن مجاراة حجم الكارثة.

تلوث متصاعد بلا رادع

وحذرت لجنة الصحة والبيئة النيابية، اخيراً، من تدهور مستمر في جودة الخدمات الصحية وارتفاع مستويات التلوث البيئي في مختلف مناطق العراق، في ظل ضعف التخصيصات المالية وتزايد آثار التغير المناخي.

وقالت عضو اللجنة النائبة ثناء الزجراوي، في تصريح صحفي تابعته "طريق الشعب"، إن "العراق، وخصوصًا المناطق الغربية، يشهد عواصف ترابية متكررة على مدار السنة، نتيجة تغير المناخ، وارتفاع معدلات الجفاف، والتصحر، وقلة الأمطار، وضعف الإيرادات المائية، ما ساهم في زيادة مستويات الغبار وتفاقم معاناة المصابين بأمراض تنفسية مزمنة".

وأضافت أن "ضعف التمويل والإهمال في قطاعات الصحة والبيئة، إلى جانب نقص الأدوية والخدمات، يشكل عبئًا مباشرًا على المواطنين، ويعرقل أي تقدم نحو تحسين الوضع الصحي في البلاد".

وشددت على أن "استمرار تصاعد التلوث البيئي يستدعي الإسراع في إنشاء مراكز تخصصية لمعالجة آثاره، وزيادة الإنفاق على البنية التحتية الصحية والبيئية بشكل عاجل".

اخر اهتمامات صناع القرار

من جهته، حذر عضو مرصد “العراق الأخضر”، عمر عبد اللطيف، من تفاقم التلوث البيئي في العراق في ظل غياب إجراءات رادعة وحقيقية من قبل الجهات المسؤولة، مشددًا على أن المواطن العراقي يواجه خطرًا بيئيًا وصحيًا دائمًا، فيما يبدو أن صناع القرار لا يولون الملف البيئي الاهتمام الذي يستحق.

وقال عبد اللطيف، إن “أبرز التحديات البيئية التي نواجهها اليوم تتعلق بتلوث المياه، نتيجة تصريف المخلفات الصحية والصناعية، والمخلفات السامة، ومخلفات وقود الكهرباء، إلى الأنهار ومصادر المياه”، لافتًا إلى أن “أنواع التلوث هذه تنتشر في عدة مناطق، أبرزها محيط مدينة الطيب حيث التلوث الصحي، وكذلك المناطق المحيطة بمعسكر الرشيد بفعل التلوث الناتج عن محطات الوقود، فضلًا عن مخلفات المعامل التابعة لوزارة الصناعة، ومنها معامل دباغة الجلود التي تُخلّف مواد سامة شديدة الخطورة”.

وأضاف انه “إلى جانب تلوث المياه، نواجه تلوثًا خطيرًا في الهواء، خاصة في العاصمة بغداد، التي باتت تصنَّف إلى جانب مدن مثل دلهي والقاهرة من حيث ارتفاع نسب التلوث الهوائي، بفعل معامل الطابوق، وحرق النفايات، وغياب المساحات الخضراء. إن بغداد مدينة إسمنتية مكتظة، وهذه العوامل كلها تجعل من تلوث الهواء مصدر خطر مستمر على صحة الإنسان”.

وأشار إلى أن “الإنسان في العراق بات يعيش في خطر دائم، نتيجة تلوث الماء والهواء”، مضيفًا ان “العواصف الغبارية والرملية المتكررة، تُعدّ من العوامل المسببة للأمراض السرطانية على المدى البعيد، إذ يمكن أن تؤدي ذرات الغبار المتنقلة في الجو إلى أمراض خطيرة بعد عشر أو عشرين سنة”.

وفي ما يتعلق بجهود المعالجة، أوضح عبد اللطيف أن “التحركات الحكومية ما زالت بطيئة، ورغم أن وزارة البيئة أغلقت العديد من معامل الطابوق المخالفة وغيّرت نوع الوقود المستخدم فيها، إلا أن التلوث ما زال قائمًا، ولم تُطرح حلول جذرية كتوسيع التشجير أو تحسين إدارة المياه، خاصة في ظل تفاقم الجفاف وانعدام نقاء البيئة”.

وانتقد عبد اللطيف ما وصفه بـ”ضعف الاهتمام الحكومي والنيابي” بملف البيئة، مشيرًا إلى أن “لجنة الصحة والبيئة في البرلمان تكاد تركز على ملف الصحة فقط، وتتجاهل البيئة تمامًا، رغم ارتباطهما الوثيق”. وتابع ان “ما يخصص لوزارة البيئة في الموازنة العامة ضئيل للغاية، ولا يقارن بما قُدّم للعراق من دعم بيئي عبر صندوق العراق الأخضر أو منظمات دولية وتبرعات خارجية. وهذا يعكس غياب الإرادة السياسية لمعالجة الكارثة البيئية المتفاقمة”.

واختتم بالقول ان “الواقع البيئي في العراق مأساوي جدًا، وإذا استمر الإهمال والتجاهل من قبل القوى السياسية وصناع القرار، فإننا سنواجه مستقبلاً أكثر خطورة، بيئيًا وصحيًا. يجب أن يكون هناك اهتمام حقيقي واستثنائي بملف البيئة، لأنه من أهم الملفات التي تمس حياة الناس بشكل مباشر”

سياسات وقرارات ارتجالية

من جهته، قال مدير منظمة "الحقوق الخضراء"، فلاح الاميري  إن صناعة القرار البيئي في العراق ترتكز على منظومة من التشريعات والقوانين والتعليمات، إلا أن فاعلية هذه المنظومة تتباين باختلاف الأدوات المستخدمة في تنفيذها، ومدى كفاءتها، وحجم الحاجة الفعلية لها؛ فبعض الأدوات تُفعّل عند تكرار المشاكل البيئية، بينما تُهمَل أخرى حتى وقوع أزمة أو حادث بيئي طارئ.

واضاف في حديث مع "طريق الشعب"، ان المشكلات البيئية في العراق "تتسم بالتنوع من حيث النوع والموقع الجغرافي. إذ إن بعض الظواهر تظهر بشكل دوري، وأخرى تنجم عن تقلبات مناخية أو تغير في أنماط الاستخدام، ما يؤدي إلى معالجات عشوائية من قبل الجهات المعنية، دون وجود استراتيجية واضحة، وهو ما يعكس ضعف أدوات اتخاذ القرار، أو حتى القرار ذاته".

ويضيف الأميري ان “النتائج الحالية، رغم وجود بعض المعالجات، لا تزال تشكل تهديداً بيئياً قائماً، وهو مؤشر على خلل في فاعلية الأداة أو ضعف القرار البيئي، ما يعزز انطباع الباحثين والمتابعين بوجود خلل في الجانب التشريعي من حيث النصوص، أو في فهم طبيعة المشكلة البيئية تمهيدًا لاتخاذ قرارات مناسبة بحجمها ونوعها”.

وأشار إلى أن "ما يُعرف بالسياسة البيئية يُفترض أن تُبنى على تشريعات نافذة وملزمة، لكن الواقع يكشف عن غياب التنفيذ الفعال لها. إذ غالباً ما يتم التعامل مع المشكلات البيئية بشكل ارتجالي عند ظهورها، دون وجود قرارات تنفيذية استباقية أو إجراءات وقائية تعتمد على البحث الاستقصائي والتنبؤ بالمخاطر، ما يؤدي إلى تفاقم الأزمات البيئية".

غياب الأحزمة الخضراء

ويرى الأميري أن "أي قرار خارج إطار النصوص التشريعية لا يكفي وحده، بل يتطلب تطوير الأدوات التنفيذية اللازمة لتفعيل السياسة البيئية، فرغم أن المتوفر من التشريعات يعتبر مقبولاً إلى حد ما، ويوفر مساحة للعمل التنفيذي، إلا أن الواقع البيئي المتغير بفعل التغير المناخي وعوامل اخرى كثيرة، وتزايد الظلم البيئي وسوء إدارة الموارد، يتطلب تشريعات خاصة أكثر دقة ومرونة”.

ويؤكد أن تحقيق العدالة البيئية لا يمكن أن يتم من دون تبني “إدارة أفقية” تمثل جوهر صياغة السياسات البيئية الراهنة، إذ إن الاستمرار على هذا النهج الحالي، القائم على البطء والجمود ومحدودية الأدوات، سيجعل من المستحيل بلوغ بيئة صحية أو تعزيز القدرة على التكيف مع تغيّرات المناخ.

كما نبه إلى "غياب الأحزمة الخضراء التي يمكن أن تعادل أو تخفف من التلوث"، مؤكداً أن "تفاقم الأزمة مرتبط أيضًا بسوء إدارة ملفات المياه والزراعة، وبتقصير الدولة في منح البيئة والزراعة أولوية ضمن سياساتها العامة".

وحذر الأميري من أن الانبعاثات الغازية الناتجة عن عمليات الاستخراج النفطي تمثل أحد أخطر أنواع التلوث، كونها تؤثر مباشرة على التربة والزراعة. “طالما أن الغازات، بما فيها الكربون، تملأ سماء البصرة، فإنها ستنزل إلى الأرض مع الأمطار، ما يؤدي إلى تغير خواص التربة، وربما عدم صلاحيتها لزراعة أنواع معينة من النباتات، خاصة قرب الحقول النفطية التي تتكرر فيها الانسكابات النفطية”.

وأضاف أن جودة الهواء "تتأثر بشكل كبير نتيجة هذه الانبعاثات، ما ينعكس على صحة الإنسان، في ظل غياب التزامات واضحة من الشركات النفطية تجاه المعايير البيئية، سواء فيما يتعلق بآبار الطمر الخاصة بالمخلفات، أو بإيقاف الحرق المتواصل للغاز المصاحب، أو حتى بإنشاء محطات عزل نفطية صديقة للبيئة".