اخر الاخبار

التراث : مجموعة عطاءات أمة من الأمم عبر التاريخ، والتراث أيضاً : تاريخ البشرية بأجمعه المادي والمعنوي ، وعرفه الآخرون بأنه : زمن فكري متجدد ، وهو المأثور الحضاري والثقافي الذي تركه المبدعون في أزمنة مختلفة سابقة ، والسؤال هنا متى أصبح هذا التراث الذي نعنى به إشكالية..  إشكالية هذا التراث هي وليدة عصر النهضة العربية في القرن التاسع عشر أي مع الغزو الفرنسي لمصر سنة ١٧٩٨م ، عند تعرف العرب على مصادر قوة الآخر (الغرب) ومكامن ضعف الذات العربية الإسلامية ، فكان التراث سلاحاً للرد على الغزو الإستعماري الغربي وعليه فقد انقسمت وجهات النظر النهضوية إلى تيارات ثلاثة : الليبرالية والسلفية والوسطية فشلت جميعها في التصدي الفكري للغرب وفشلت تلقائياً في حل مشكلة التراث، وتنطوي إشكالية التراث هذه على طبيعة العلاقة بين الماضي والحاضر أو الحداثة والتراث ، فهل التراث امتداد زمني أي استمرارية تلقائية من السابق إلى اللاحق ؟ هنا اختلف المفكرون والمثقفون العرب في موقفهم من التراث والإشكالية ما زالت موجودة بين التراث والمعاصرة ، وقد عمل الجيل الثاني من المفكرين والمثقفين العرب بإعادة النظر في آليات الخطاب مع إعمام العقل في قبول أي حديث وفهم النصوص التراثية والدينية وما ينافي العقل لا يقبل، أي لا بد من تشكل وعي من تراث فكري ضارب في الأصالة والإستنارة والحداثة، إنه ميراث عقلاني أسسه جيل طه حسين وعلي عبد الرازق والعقاد وأحمد لطفي السيد وغيرهم ، إذ عملوا على منهجية للتراث تمثل التنوير والتقدم وترسخ العقلانية من أجل تحديث المجتمع وتقدمه وتحقيق مدنية الدولة وتكريس القيم الإنسانية والكونية ومنها حرية الفكر والتسامح وشرعية التعدد والإختلاف والعدالة ونبذ التعصب والتسلط والإستبداد، أي أن الإنسان يجب أن يتحرر من عبودية التراث ويجدد قراءته له كي يستجيب إلى مقتضيات العصر فلا تقدم للبشر ولا سيادة لهم إلا بالتحرر من سطوة الموروث وبتجاوز الإتباع والتقليد والنقل، وهذا كله لا يبعدنا عن احترام تراثنا واعتزازنا به , لأنه تاريخنا في ماضينا وقوامنا في حاضرنا وعدتنا في مستقبلنا ، ليس في هذا شك وليس فيه مراء، ولكن اعتزازنا هذا أدى بنا الى عزل أنفسنا

 فذلك يعني أننا في غمرة من الأمية المخيفة التي لا يعرف نتائجها إلا الذين أكلوا أنفسهم حتى لم يبقوا لها أثراً يقول الدكتور طه حسين مالك الحياة وشاغل الفكر عن الماضي والتراث ( بيننا وبين الماضي أسباب متصلة وبيننا وبين المستقبل أسباب ستتصل، فمالنا لا نحتفظ بهذه المكانة السامية ، فلا نسرف في التقدم ولا نسرف فى التأخر ، لا أمقت القديم ولا أأنف من الحديث، وإنما أرى أني وسط بين القديم والحديث)، ويقول محمد أركون : (قلنا ونكرر القول بإعادة كتابة تاريخنا الثقافي بصورة عقلانية وبروح نقدية ، لأنه من خلال ممارسة العقلانية في تراثنا نكتسب عقلانية ستكون هي التربة الصالحة الغنية)، ويقول الدكتور عاطف العراقي : ( إن النظرة التجديدية لا تقوم أيضاً على الوقوف عند التراث كما هو دون بذل أية محاولة لتأويله وتطويره بل أن النظرة التجديدية تعد معبرة عن الثورة داخل التراث نفسه، إنها إعادة بناء التراث وبحيث يكون متفقا مع العصر الذي نعيش فيه ، فالتجديد إذن هو : إعادة بناء ولا يعد التجديد تمسكاً بالبناء القديم كما هو وصورته التقليدية )، والعقلانية التي يتحدث بها مفكرو ومثقفو الجيل الثاني والثالث هي الإحتكام إلى العقل ويعني المساواة بين العقول و قبول اختلافها بوصفه أمرا طبيعيا ومن المؤكد أن العقل بقدر ما هو دليل على حرية إرادتنا وقدرتنا على الإختيار الخلاق فإنه دليل على حتمية حضور العدل، وأعود إلى طه حسين الذي يؤكد دائماً بأنه ليس كافراً بكل القديم وأنه لا ينبغي استبعاده أو نقضه ، بل يرى خلاف ذلك تماماً ، فإن شدة إيمانه  بقمة التراث العربي هي التي دفعته إلى تقويمه وتهذيبه ليضمن له البقاء في عصر العلم فيقول : أن تحتفظ من الحضارة المصرية بما يلائمنا وهو الفن ومن الحضارة العربية الدين واللغة وأن نأخذ من الحضارة الغربية بكل ما نحتاج إليه ) ، ويقول في محاضرة ألقاها سنة 1956 م في مؤتمر المجامع العلمية العربية في دمشق موضحاً موقفه من التراث.

(لا أدعوكم إلى هجر القديم مطلقًا وعسى أن أكون من أشد الناس محافظة على قديمنا العربي ولا سيما الأدب واللغة )، ويكمل حديثه قائلاً : ( من بين اثنتين : أما أن نقبل في الأدب وتاريخه بما قاله القدماء، وإما أن نضع علم المتقدمين كله موضع البحث ، أريد أن لا نقبل شيئاً مما قاله القدماء في الأدب وتاريخه إلا بعد بحث وتثبت إلى أن ينتهيا  الى اليقين  ) ، هذا موقف أصيل للعميد من تراثنا العربي، أي لا بد لنا من توجه عقلي لمساءلة التراث وضرورة الوقوف من موقف الناقد بكل إنجازاته ، وتتكون رؤية غالي شكري في كتابه (التراث والثورة ) بخطوات ثلاثة هي : الأولى تتعلق بتبويب وتصنيف وتوثيق المؤلفات التراثية، والثانية تجري فيها عملية التقييم التحليلي الموضوعي لما تم إظهاره وتصنيفه، ويركز غالي شكري في الخطوة الثالثة على انتقاء الأصلح والأنسب من هذه المؤلفات لواقعنا وملهماً للتغيير، أما المفكر الشهيد حسين مروه يقول في منهجه لكتابة التراث : ( فيه الصراع المستديم بين قوى القهر وقوى الحرية، بين العقل والجهل، وإن الفلسفة العربية الإسلامية ليست واحدة بل متناقضة يتجاذبها تيارات تيار النور وتيار الظلمات ، تيار الثائرين وتيار المستبدين حتى بالدين وطبعاً بالإنسان)، ويرى أن حل مشكلة الموقف من التراث وفي ضوء المنهج المادي التاريخي في غرضين: الأول: كيفية استيعاب التراث بشكل جديد ،

والثاني: كيفية توظيف هذا الإستيعاب الجديد في مجال تحرير الفكر العربي الحاضر من سيطرة التبعية ، فقد كان منهجه هذا بديلاً لحل إشكالية التراث التي لا يمكن حلها في النهاية إلا على أساس أيديولوجي  يتصل بالطبقي والعلمي، وهؤلاء  وغيرهم من التنويرين هم صانعو الثقافة العربية الخلص الذين حفروا الصخر في مواجهة الهجمة التي تسعى لتدمير كل تراث العقلنة والتنوير في فضائنا العربي .