حين تُبقي المدينة أبوابها مواربةً، تتسلل القصص والأساطير من أفواه الأزقة الضيقة.. في الشهر الأخير من السنة، يكون برد بغداد قاسيًا جدًا، لكنه لا يطفئ الدفءَ الذي يختبئ في قلوب المحبين. ها هو أحد محبيها جالسٌ في غرفته، الضوء الوحيد فيها يرتعش من ولّاعة قديمة، لهبها صغير بالكاد يكفي ليضيء جزءًا منها.. لكنه كان كافيًا لتحريك الظلال على الجدران. لم تكن هناك لوحات ولا صور، فقط جدران صامتة تعرف أسماء مَن سكنوا جوارها. كلما انطفأ لهب الولّاعة، قفز اسمها في ذاكرته.. لم يتذكر وجهها، لكنه شعر بحضورها يتنفس في زوايا الغرفة. ارتدى معطفه دون تفكير، وقاد سيارته في شوارع لم يحدد اتجاهاتها، كما لو أن العجلات تعرف الطريق وحدها.. توقف عند زقاق ضيق في (الكرادة-داخل)، ومنه خرج يتمشى إلى الشارع الرئيسي. الشارع كان نائمًا تحت ضوء المصابيح الخافتة، والدخان المتصاعد من مواقد الشاي وعربات الشلغم واللبلبي يرسم غلالة شفافة فوق الرؤوس. عند ناصية مقهى قديم، وقف لحظات قليلة.. خلف زجاج النافذة كانت هناك طاولة فارغة تنتظره، لكنه لم يدخل.. لم يكن يبحث عن مقعد، بل عن شيء آخر.. شيء لا يعرفه.
-عمو.. عمو.
التفت وراءه.. على الرصيف رأى طفلة تحمل سلة زهور.
رفعت زهرة حمراء نحوه:
-بغداد جميلة.. أليس كذلك؟
كانت الزهرة صغيرة، لكن السؤال كان أكبر من عينيها.
أخذ الزهرة ببطء، تأملها جيدًا وقربها من أنفه قائلًا:
-جميلة؟ نعم، إنها جميلة.. لكن هناك مَن يريدها أن تبقى حزينة.
ضحكت الطفلة وكأنها تعرف سرًّا لا يعرفه أحد:لكن حتى حزنها جميل.
مد يده إلى جيبه.. تردد.. كانت تنظر إليه بعينين لا تطلبان شيئًا.
-هذه هدية مني، لأنك تشبه أبي.
راح يراقبها وهي تختفي بين المارة كظلٍّ لا يترك أثرًا..
أتاه هاجس أن ينهي مسيره ويعود إلى غرفته.. وضع الزهرة في كأس ماء بجوار النافذة، أشعل الولّاعة مجددًا.. لم يتغير الضوء، لكنه شعر أن الغرفة صارت أكثر دفئاً من قبل.
حين حاول النوم، ظل السؤال يتردد في ذهنه: ترى، أين والدها، ولماذا لم تأخذ النقود؟
خالجه شعور بأن شيئًا يسحبه من الفراش.. لم يستطع الانتظار ليوم الغد. ارتدى معطفه مرة أخرى وخرج، راجعًا إلى الشارع نفسه.. وجده كما هو.. كأن الوقت لم يتحرك. على الزاوية وقف بائع زهور عجوز يعيد ترتيب الأزهار بعناية فائقة، اقترب منه وألقى التحية وسأله:
-يا عم.. أسأل عن طفلة تبيع الزهور.. كانت هنا قبل ساعتين.
رفع البائع نظره ببطء، ابتسم بحزن وقال:
-يا بني.. أنت ثالث شخص يسأل عنها اليوم.. الطفلة التي تبحث عنها، للأسف، احترقت مع والدها في تفجير (مجمع الليث) قبل سنوات.. لكن طيفها يظهر بين فترة وأخرى لبعض العابرين.
أحس بقشعريرة تسري في جسده، انخفضت عيناه إلى الزهور أمام البائع، دقق النظر جيدًا، ولاحظ وجود زهرة حمراء تشبه تمامًا تلك التي بين يديه الآن.
-لكنها كانت هنا.. تحدثت معي، قالت لي..
وقبل أن يكمل، أجابه البائع وهو يعيد ترتيب الزهور بلطف:
-هل قالت لك إنك تشبه والدها؟
هز رأسه ببطء:
-نعم.. نعم، قالت ذلك.
رفع نظره فجأة، فرأى البائع يبتعد حاملاً زهراته كلها، كما لو أنه يخبئها من البرد.. تبعه بعينيه، لكن الرجل اختفى في زقاق جانبي لم يكن موجودًا قبل قليل. ظل واقفًا في مكانه للحظات، لا يدري إن كان يحلم أو أنه ما زال في غرفته بجوار الولّاعة ولهيبها.. وحين تحرك أخيرًا، شعر أن طيفًا صغيرًا يمشي إلى جواره ويهمس بصوت طفولي رقيق:
-بغداد جميلة..
حتى حزنها جميل.
ودون أن يدري، أخذ يتمتم معها بصوت خفيض:
-نعم، حتى حزنها جميل..
نعم، حتى حزنها جميل.