اخر الاخبار

كتابة: بيلي كاهورا

ترجمة : قحطان المعموري

 

 

* بيلي كاهورا: لقد كتبت عن تأثير ثقافة كيكويو الشفوية، التي نشأتَ فيها، على نهجك الروائي. هل يمكنك الحديث أكثر عن كيفية التوفيق بين هذه التأثيرات، خاصة عندما تكون متضادة، مثل الأغاني والأحاجي في طفولتك من جهة وما درسته.. كيف تصف حرفيتك عندما يتعلق الأمر بكتابة الرواية؟

- واثيونغو: أحب عبارة والت ويتمان: "أنا أحوي الجُموع". الكاتب، أو لِنَقُلْ الإنسان، يحتوي على جُموع. كل هذه التأثيرات كوّنت الكاتب الذي أنا عليه. لقد كانت جلسات الحكايات في طفولتي هي الأكثر تأثيرًا واستمرارًا. قصص الكتاب المقدس، خاصة في العهد القديم، غذّتْ خيالي. وبالطبع مجموعة الأدب الإنجليزي، من شكسبير إلى تشارلز ديكنز، د. هـ. لورنس، ستيفنسون. ثم جاء تأثير الأدباء الأفارقة، والكاريبيين، والأفارقة الأمريكيين. أيضًا، تأثرت بالأدب المترجم، كالأدب الروسي والكتاب اليونانيين. لذا نعم، أحتوي على جموعٍ من التأثيرات. الخيال هو مرجل الساحرات لدى الكاتب. لكن لو اضطررت لاختيار كاتب واحد، فسيكون جوزيف كونراد حيث كان تأثيره واضحاً في البنية السردية في (حبّة قمح ) – ترجمها للعربية سلمان حسن العقبري -  و (تويجات الدم) .

بيلي كاهورا: سبق وأن ذكرت بأن هناك تأثير مباشر لكتاب (خطاب عن الاستعمار) لأيميه سيزيرعلى عملك، لكنك تشير أيضًا إلى "الاستعارات الماركسية" كدافع وراء عملك الإبداعي. تبدو المقاربات التقليدية للكتابة الإبداعية  متحفّظة تجاه مفاهيم مجردة مثل "الصراع". هل كان من الصعب التوفيق بينها في عمل الرواية التي تقوم على الملموس والمحدد وهل يمكنك أن توضح لنا كيف تناولتْ رواياتك بين "التجريدات الفكرية" وتجاربك الواقعية؟ بعض الكتاب يبدأون من الشخصيات والمكان، بينما ينطلق آخرون من فكرة موضوعية ويُسقطون عليها الشخصيات والأحداث.

- واثيونغو: قلت مرة  "لكلِ كاتبٍ نظرة للعالم" . لقد تأثرت رؤيتي للعالم تأثرًا كبيرًا بكفاح الشعب الكيني المسلح من أجل الاستقلال عن بريطانيا. هل يمكنك تخيّل فلاحين حفاة وعمالٍ يرتدون سراويل رثّة يتحدّون جبروت الإمبراطورية البريطانية؟ هذا مذهلٌ حقًا. لذا، فأن النضال هوجزءٌ بالغ الأهمية من نظرتي للعالم. صراعٌ داخلي: صراعٌ مع الطبيعة؛ صراعٌ مع الآخرين. لا حياة من دون صراع،. لقد عمّقت قراءة أعمال هيجل وماركس وإنجلز هذه النظرة. أعتقد أن على كل كاتب قراءة أعمال كارل ماركس. فهو (كاتبْ الكُتْابْ) . لقد حفزتني عوامل مختلفة على كتابة أعمالي ولقد أوضحت هذا في ( ناسج الأحلام) . كان المال دافعًا في البداية لكتابة (النهر الفاصل).  أما (حبّة قمح )  فقد استُلهمت من زيارتي إلى إنفرنِس، شمال أسكتلندا، وأظنني كنت أقرأ ( آنا كارنينا) لتولستوي، حيث يتجلى القطار كرمز في الرواية كلها. كتبت أول سطر منها في القطار. كما تأثرت بجوزيف كونراد، وخصوصًا (تحت أنظار غربية) . أما (شيطان على الصليب) ، فجاءت كرد على سجني دون محاكمة في سجن كاميتي ، فيما كانت (ساحر الغراب ) بمثابة ردة فعل على تشخيص إصابتي بسرطان البروستات ، حيث قيل لي إن أمامي 3 أشهرفقط للعيش. عدت إلى منزلي، وكتبت أول سطر، وكان من المفترض أن تكون رواية وداع ، لكنها استمرت ولم تنتهِ حيث كنت يائسًا. بدأت الرواية في أورانج، نيوجيرسي، عندما كنت أستاذًا في جامعة نيويورك، وأنهيتها في أورانج كاونتي/ كاليفورنيا.  أما بقية أعمالي فهي كردود فعل على المنفى، ووسيلة للتواصل مع كينيا وأفريقيا. بشكل عام، ساعدني الفن على مواجهة المآسي الشخصية، بما في ذلك أن أكون على حافة الموت. خلال جائحة كورونا، كتبت قصيدة ( فجر الظلام ) بالإنجليزية، لكن المشاعر في القصيدة، وروح المقاومة، والأمل إن أردت، جاءت من صراعي الشخصي للتعافي من عملية قلب مفتوح وفشل كلوي. لقد كانت كلمات والدتي - في أحلك الليالي تنتهي بفجر- حاضرةُ معي، وأردت مشاركتها مع العالم.

بيلي كاهورا: في روايتك (تويجات الدم) ، يشعر القارئ بتوتر خاص بين الأفكار الكبرى في العمل وأصوات شخصياتك. كيف تعاملت مع "أصوات" شخصيات قرية إلموروغ والتجريدات الفكرية لماركس وسيزير، وغيرهما من رموز "النضال" الذين كثيرًا ما تقتبس منهم في الرواية.

- وا ثيونغو: ماركس وسيزير ليسا تجريدات. ماركس فتح أعيننا على كيفية عمل المجتمع وان رؤيته لآليات الرأسمالية لا تضاهى. ومن المفارقة أن من يفهمه بشكل أفضل هم الرأسماليون وأنصار النظام الرأسمالي. إنهم يعرفون أن ماركس يراهم ويكشف نظامهم؛ ولهذا يكرهونه وينفقون المال والموارد لشراء السياسيين والمثقفين لتفنيده ومقاومته. ماركس يقول لنا: إذا أردتم فهم مجتمعكم، انظروا كيف يُنتَج الثروات وتُوزَّع. انظروا إلى التداخل بين الاقتصاد والسياسة والثقافة والقيم، وسترون كيف يؤثر كل ذلك على حياة الناس. ماركس يدعونا لأن نفتح أعيننا وننظر حولنا. وينطبق ذلك إلى حد كبير على الشاعر الفرنسي إيميه سيزير، في تحليله للاستعمار، وفي شعره، وخصوصًا في قصيدته "العودة إلى الوطن الأم"، وفي كتابه "خطاب عن الإستعمار" ترجمة سعدي يوسف.

* بيلي كاهورا: في سياق توجهاتك الماركسية، كيف أثرت الواقعية الاتشراكية على أسلوبك الأدبي؟

- وا ثيونغو: أنا أقرأ ماركس لفهم المجتمع، خاصةً الرأسمالية والإمبريالية، وهذا يساعدني على كتابة روايات أفضل. وفي زيارتي للاتحاد السوفييتي أنهيت رواية "تويجات الدم" (التي بدأتُ بكتابتها في شمال غرب أمريكا، وكتبت معظمها في كينيا). أنهيت الرواية في منزل تشيخوف في جبال القوقاز المطلة على يالطا والبحر الأسود. راجع سردًا كاملاً لهذا في كتاب : "الثقافة الاشتراكية في العالم الثالث" لفيجاي براشاد. عدّ هذه الرواية، عملاً يعبرعن الغرب والشرق والعالم الثالث والانقسام في الحرب الباردة.

* بيلي كاهورا: هل شعرت بالغبن لعدم وجود تجارب مماثلة لخبراتك في شكل الرواية مقارنةً بنظرائك الأوروبيين الذين انطلقوا من تقليد راسخ وإذا كان الأمر كذلك، كيف تغلبت على ذلك؟

- وا ثيونغو: أحب الأدب من كل لغات العالم. أحب أعمال شكسبير وتولستوي وبلزاك. كان هناك وقت كنت مهووسًا فيه بالملاحم الآيسلندية. وعندما زرت آيسلندا لاحقًا، اندهشت حين وجدت نفسي أسير في الأماكن نفسها التي ذُكرت في بعض تلك الملاحم من القرن الثاني عشر.

في رواية "ساحر الغراب"، أشير إلى المهابهارتا وغيرها من كلاسيكيات اللغة السنسكريتية المكتوبة في حدود عام 1500 قبل الميلاد. أنا منفتح على التعلم من كل اللغات والثقافات. لقد اكتشفتُ مؤخرًا الأدب المصري القديم، والذي يجب أن يكون جزءًا من منهج الأدب في المدارس الإفريقية. لابد من الإشارة الى أن المزمور 104 في العهد القديم هو تقريبًا إعادة صياغة لإنشودة مصرية لإله الشمس آتون.

* بيلي كاهورا: كيف تغيرت كتاباتك عندما عدت إلى كينيا بعد الاستقلال؟

- وا ثيونغو: كان لكتاب جومو كينياتا ( مواجهة جبل كينيا) تأثير كبير عليّ. كان كينياتا في أوج عطائه الفكري. كما إن كتاب أوغيغا أودينغا ( الحرية لم تتحقق بعد) مهم أيضًا. استشارتني دار هاينمان اللندنية بشأنه، ولم يكن لدي الكثير لأضيفه سوى إعجابي به. أعرف ما يقوله محتوى الكتاب، لكني أشعر بعدم الارتياح تجاه عبارة "الحرية لم تتحقق بعد". لا أريد للناس أن يقللوا من أهمية الاستقلال. انا أفضل صيغة ماو: تسعى الدول للاستقلال؛ تناضل الأمم للتحرر الوطني؛ وتسعى الشعوب للثورة الاجتماعية. كل مرحلة من هذه المراحل مهمة، لكن من الواضح أن الاستقلال السياسي لا معنى له بدون ثورات وطنية واجتماعية — أي بدون تمكين اقتصادي وسياسي وثقافي ونفسي للطبقة العاملة. وهذا بالضبط ما كان أودينغا يقصده في كتابه.

* بيلي كاهورا: إلى أي مدى كان للأعمال التي كُتبت في مستعمرة كينيا على يد كُتّاب استيطانيين إنجليز مثل إلسبيث هكسلي وكارين بليكسن تأثير على كتاباتك؟

- وا ثيونغو: ليس كثيرًا، باستثناء كونها تجسيدًا أدبيًا لما كنت أكتب ضده. إلسبيث هكسلي كانت مدافعة بالكامل عن الاستعمار الاستيطاني. أما كارين بليكسن فهي بالتأكيد الأهم بين الاثنتين. هكسلي مدفوعة بعنصرية الازدراء، بينما بليكسن مدفوعة بعنصرية المحبة. لقد تحدثت عن هاتين الكاتبتين في مذكراتي " ميلاد ناسج أحلام".

* بيلي كاهورا: غالبًا ما يُنظر إلى أعمالك على أنها تحمل تأثيرات واقعية وحداثية. هل ترى هذا صحيحاً؟ وهل كنت على دراية به عند الكتابة — سواء لنفسك أو ضمن سياقات أدبية تقليدية؟

نغوغي وا ثيونغو: أترك للقارئ تحديد خصائص أعمالي. لكنني أعترف بإعجابي بمجموعة واسعة من الكُتّاب الإنجليز والاسكتلنديين والايرلنديين والفرنسيين والألمان والهنود والأفارقة وغيرهم. بيتر أبراهامز، وسيبريان إيكوينسي، وتشينوا أتشيبي، وولي سوينكا؛ وكامارا لاي: قرأتُ لهم جميعًا.

* بيلي كاهورا: في مقالاتك "العودة إلى الوطن" عام 1973، طالبت بـ"أغانٍ، وقصائد... وأدب يُجسد منظومة قيم تتعارض جدليًا مع تلك الخاصة بالطبقة الحاكمة من العرق والأمة المستعمِرة". في وقتنا الحاضر، حيث أصبح مفهوم السلطة أكثر تعقيدًا وعولمة، واللغتان الإنجليزية والفرنسية منتشرتان على نطاق واسع، والهياكل الرأسمالية متجذّرة لدرجة أن الرؤى العالمية الأخرى تكافح من أجل الظهور، هل ما زلتَ ترى أن لهذه الأمور دورًا ما .. ما هو موقع "لغاتنا الأم" في عالم معولم جدًا حيث تنتشر فيه تقنيات الإعلام واللغات الأوروبية المهيمنة وما الذي يعنيه هذا لأجيال الكتابة القادمة ونهجهم تجاه السلطة؟

- وا ثيونغو: العولمة هي حكم رأس المال على مستوى العالم. لقد أطلقت عليها اسم "الافتراس العالمي" لموارد إفريقيا والشعوب والمناطق المستعمَرة سابقًا، أو ما يُطلق عليه العالم الثالث أو العالم النامي. علينا أن نواجه هذا "الافتراس" بعالمية إنسانية. العالمية تعني الوحدة الواعية لجميع شعوب العالم العاملة. رأس المال الذي يضطهد العامل في بريطانيا هو نفسه الذي يضطهد في كينيا. الأوليغارشيات النفطية التي تدمّر البيئة في أمريكا هي نفسها التي تفعل ذلك في إفريقيا والشرق الأوسط وأمريكا الجنوبية. الأمر نفسه ينطبق على المؤسسات المالية العالمية؛ قد تكون جذورها في الغرب، لكن أذرعها في كل مكان. تذكّر أن القوى الصناعية والنووية الرائدة مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا كانت من أكبر المتاجرين بالرقيق ومالكي العبيد. هل هذا مجرد صدفة؟ انظر كتابي "تأمين القاعدة" لقد جعل إفريقيا مرئية في العالم". لاحظ كيف أن القوى الرأسمالية الكبرى في العالم ،هي أيضًا والى حدٍ كبيرٍالقوى اللغوية السائدة في العالم. إن النضال من أجل اللغات أمرٌ بالغ الأهمية. تذكروا أنه لا توجد لغةٌ أسمى من أخرى. إذا كنت تعرف جميع لغات العالم، ولا تعرف لغتك الأم أو لغة ثقافتك، فهذا استعباد. أما إذا كنت تعرف لغتك الأم أو لغة ثقافتك وأضفت إليها جميع لغات العالم، فهذا تمكين. كتاباي الموسومان "تفكيك إستعمار العقل" و"شيءٌ ممزقٌ وجديد" يتناولان هذه القضية بالتفصيل. يتحدث كتاب "شيءٌ ممزقٌ وجديد" عن سياسات الذاكرة، و العلاقةٌ الوثيقةٌ للغة بهيمنة الذاكرة (الجسد، المكان، الزمان) .. كان الاستعمار يعني ويؤدي إلى غرس ذاكرة المُستعمِرْ في جسد المُستعمَرْ وعقله ومكانه ..