الدعاية السياسية ممارسة اجتماعية معقّدة، وشكل من أشكال التواصل الاستراتيجي، يهدف إلى إثارة استجابة أو ردّ فعل لدى المتلقي، بما يخدم مصالح محددة. وتختلف الدعاية عن الإعلان السياسي بكونها أوسع وأشمل وأقلّ مباشرة، كما تختلف عن التثقيف السياسي بكونها لا تهدف بالضرورة إلى التنوير النقدي، بل غالبًا إلى التعبئة أو الإقناع (1).
وتُستخدم في الدعاية السياسية الوسائل الرمزية (مثل الشعارات، الصور، الخُطب، النصوص، الأغاني، الأفلام، وغيرها) لنقل رسائل مقصودة إلى الجمهور، بغية تعبئته، أو كسب تأييده، أو نزع شرعية الخصم. أي إنّ الدعاية السياسية محاولة مقصودة ومستمرة للتأثير في إدراك الجمهور واتجاهاته وسلوكياته، عبر التحكم بالمعاني والرموز والإشارات الاجتماعية(2) .
أهداف ووسائل الدعاية السياسية
ويمكن تلخيص أهداف الدعاية السياسية بكسب التأييد الشعبي، والترويج لجهة أو حزب سياسي، وفضح المثالب السياسية والفكرية للخصوم، وبالتالي إضعاف روحهم المعنوية، وتحفيز المشاركة السياسية (كالتصويت أو التظاهر أو غيرها). وللدعاية السياسية وسائل متعددة، من أبرزها: وسائل الإعلام التقليدية كالصحف والإذاعة والتلفزيون، ووسائل التواصل الاجتماعي مثل "X" و"فيسبوك" و"تيك توك" وغيرها، والخُطب السياسية بما تحمله من شعارات مؤثرة، واستثمار المؤثرات السمعية أو البصرية كالملصقات والرايات والموسيقى الوطنية، أو التقارير والإحصاءات، خاصة الدقيقة منها والكاملة.
من فنون الدعاية السياسية
يُعَدّ استخدام رموز ثورية، فكرية، دينية، وطنية أو تاريخية من أبرز فنون الدعاية السياسية، وخاصة تلك التي تُقدِّم شخصية سياسية أو حزبًا ما كمنقذ أو قائد ملهم. ويُنصَح غالبًا باعتماد التبسيط، وعرض القضايا المعقّدة بطريقة مفهومة للجميع، وتكرار الرسائل والشعارات حتى تصبح مألوفة ومقنعة. كما ينبغي أن تكون سياسات الخصوم وكواليسهم معروفة جيدا، بما في ذلك فنون وأبعاد دعاياتهم، ليصبح يسيرًا فضحها، ومقاومتها، وعزلها، بطريقة علمية ومقنعة.
الدعاية شكل من أشكال الإيديولوجيا
ولما كانت الإيديولوجيات المتنافسة التي تتصارع في المجتمع الطبقي، سواء إيديولوجيا الطبقة المهيمنة أو الطبقة/الطبقات المعارضة لها، تمثل مصادر لتزويد الجمهور بفهم العالم، وتتدخل لبناء المعرفة لديه، من خلال قنواتها الإعلامية، والمثقفين الذين يتبنون خطابها الفكري، ورجال الدين، والمؤسسات التابعة لها، فإنّ الدعاية السياسية تُعدّ شكلًا من أشكال الإيديولوجيا يختص بالإقناع الجماهيري، ويهدف إلى كسب مشاعر المتلقي — بدون أو مع تحفيز تفكيره — لجعل فهمه للعالم يتوافق مع قيم ومعايير تلك الإيديولوجيا.
وفي الوقت الذي يشير فيه المفكرون البرجوازيون إلى أن علاقة السلطة بالمعرفة علاقة تبادلية، يؤكّد الماركسيون على أن السلطة نتاج للطبقة المهيمنة، التي تستغل قوة العمل، وتنهب فائض القيمة، وتستخدم المعرفة كأداة للهيمنة. ولهذا يُعرّف الماركسيون الدعاية السياسية بأنها أداة من أدوات الصراع الطبقي، تهدف الطبقة المسيطرة من خلالها إلى تكريس هيمنتها، فيما تستخدمها الحركات الثورية لنشر الوعي الطبقي، وتعبئة الجماهير نحو التغيير. فالدعاية ليست مجرّد وسيلة إعلامية، بل هي أداة صراع طبقي، وجزء من عملية التغيير الاجتماعي، وهي تترجم الأفكار النظرية إلى لغة الناس، وتربط بين حاجات الجماهير اليومية وآفاقها التاريخية الكبرى.
الحزب والدعاية
إنّ عدم قدرة الشغيلة، ورغم المصالح الطبقية المشتركة لها، على اكتساب الوعي الطبقي عفويًا، هو ما يفرض وجود حزب قادر على التعامل مع الصراع الطبقي، وقيادة وتنظيم الشغيلة، ورفع وعيها الطبقي، وفهمها لمصالحها، وتغذيتها بالخبرة السياسية التي تُقنع قطاعات واسعة منها بالانخراط في الكفاح من أجل تلك المصالح (3).
ولما كان على هذا الحزب أن يدير الجوانب الثلاثة للنضال: الأيديولوجي-النظري، والسياسي، والاقتصادي، بطريقة متناغمة ومنهجية ومستمرة، ويساهم في كفاح العمال المطلبي والسياسي، صارت مهمة الدعاية السياسية فيه ممارسة يومية منظمة ومتواصلة، تعني جميع أعضاء ومناصري هذا الحزب.
الدعاية مهمة كل الرفاق
لقد دعا لينين إلى أن يُنظّم جميع أعضاء ومنظمات الحزب حياتهم وعلاقاتهم الاجتماعية، وفقًا لمهام الدعاية المنوطة بهم(4). وصنّف هذه المهام إلى ثلاث، مؤكدًا ضرورة أن يتدرّب عضو الحزب على جميع هذه المهام، بحيث يمكن أن ينتقل من مهمة إلى أخرى بسهولة، وأن يؤديها بإبداع:
• المنظِّمون: وهم من يتولّون تنظيم الاجتماعات والاحتفالات المحلية، ويقومون بتنظيم الدعاية في هذه المحتشدات وبالوسائل المتاحة.
• المحرِّضون: وهم الأشخاص الذين لديهم فكرة واحدة أو عدد بسيط من الأفكار، يرددونها أمام عدد قليل من الناس لتعبئتهم شيئًا فشيئًا.
• الدعاة: وهم المتخصصون الذين يتلقّون رسالة الدعاية ويصوغونها بقدراتهم الذاتية، كليًا أو جزئيًا، ويذيعونها على أكبر عدد من الناس.
الشغيلة والدعاية البرجوازية
تمكّنت الدعاية السياسية للبرجوازية من الهيمنة الإيديولوجية على العالم، عبر السيطرة على وسائل الإعلام أو على غالبيتها، وتحديد محتوى الأخبار والمعلومات التي يتم توزيعها، ونشر المعلومات المضلِّلة والأفكار والمعتقدات التي تخدم مصالح الطبقة الحاكمة، والترويج للإيديولوجيا الرأسمالية والليبرالية، والتغطية على الصراعات الطبقية، وخلق وهم التوافق الاجتماعي.
ولهذه الدعاية دور سلبي خطير على كفاح الطبقة العاملة، عبر محاصرتها، ومنعها من التعبير عن مطامحها، ومن ثم تشويه سمعتها وإقصائها، وتعميم الأفكار التي تُبرّر استغلالها أو تُقوِّض معنى نضالها من أجل التحرر، والعمل على خلق "الوعي الزائف" لديها، من خلال التسليم بالوضع الراهن باعتباره أفضل ما يمكن تحقيقه، وأن أي محاولة للتغيير ستؤدي إلى الفوضى. كما تعمل على تعزيز الأفكار الفردية، وتشجيع السلبية لإضعاف التضامن بين أفراد الشغيلة، وأخيرًا، تشجيع النزعة الاستهلاكية والتركيز على الاستهلاك، بدلًا من التفكير في القضايا الاجتماعية والسياسية (5) .
استراتيجية المواجهة
ولكي تتمكن الشغيلة من مواجهة الدعاية البرجوازية، لا بد من بناء تنظيماتها القوية القادرة على الدفاع عن حقوقها، والاسترشاد بالمنهج الماركسي المادي الجدلي، والتمسك بالهدف الاستراتيجي المتمثّل في القضاء على الرأسمالية باعتبارها نظامًا غير عادل، وغير منطقي، وغير ديمقراطي. ويجب فضح جوهر وأساليب الدعاية البرجوازية، ما ظهر منها وما بطن، ونشر المعرفة والوعي بين صفوف الطبقة العاملة حول وظيفة الدعاية، والتوجّه بشكل رئيسي إلى الوعي والعقل والمنطق، وتجنّب مخاطبة المشاعر والعواطف والغرائز، واعتماد المبدئية والحزم ضد الخصوم الطبقيين (6).
كما ينبغي اعتماد الواقع المَعاش ومتغيراته أساسًا لتحديد نصوص وأساليب الدعاية وتطويرها، وأن يجد المتلقي أهدافها مفهومة وتستحق الفهم، وأن تتضمّن التأكيد على وحدة الشغيلة، باعتبارها القوة التي تمكّن العمال من تحقيق أهدافهم السياسية والاجتماعية، وتحرير أنفسهم والبشرية من العبودية الطبقية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
1. Auerbach, Jonathan & Castronovo, Russ (red.) Introduction: Thirteen Propositions about Propaganda. In The Oxford handbook of propaganda studies, Oxford University Press, New York, 2014
2. Statens medieråd, Propaganda: Vad, hur och varför? Statens medieråd: Stockholm, 2016.
3. روب سويل 2018. الدروس الثورية لكتاب لينين، ما العمل؟
4. يقول لينين ("هل يمكن الاقتصار على الدعاية لفكرة عداء الطبقة العاملة للأوتوقراطية؟ كلا، طبعا. فلا يكفي أن نبين للعمال أنهم مضطهَدون سياسيا – مثلما لا يكفي أن نبين لهم أن مصالحهم تتناقض مع مصالح أصحاب الأعمال – إن من الضروري أن نقوم بالتحريض بصدد كل مظهر ملموس من مظاهر هذا الاضطهاد) في مقال : لينين صحفياً، رضا الظاهر، طريق الشعب 11/6/2025
5. Imperialist Propaganda and the Ideology of the Western Left Intelligentsia: From Anticommunism and Identity Politics to Democratic Illusions and Fascism. by Gabriel Rockhill and Zhao Dingqi. NLR 150, 2023.
6. عز الدين عنابة: غرامشي في العالم العربي، مراجعات، نوفمبر 2018