في الأزقة الخلفية للمدن العراقية، حيث تختلط الروائح بالنظرات الاجتماعية القاسية، تعمل نساء في جمع وفرز النفايات، في مهنة تتجاوز كونها مصدر رزق لتصبح شهادة على قسوة الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي يعانين منها. هؤلاء النساء، غير المرئيات غالبًا في الخطاب الرسمي والإعلامي، يُقدّمن نموذجًا صارخًا عن هشاشة الحماية الاجتماعية، وغياب السياسات الداعمة للفئات الأكثر تهميشًا.
مهنة مفروضة لا مختارة
لم تصل النساء إلى العمل في النفايات عن رغبة أو قناعة، بل نتيجة تراكم ضغوط الفقر، غياب فرص العمل، وانعدام مصادر دخل أخرى. تقول أم علي، وهي أربعينية تعمل في جمع البلاستيك والحديد من مكبّات القمامة في بغداد: "أعرف أن الناس ينظرون إلينا نظرة دونية، لكنني مضطرة. لدي أربعة أطفال، ولو تركت العمل ليوم واحد فلن أستطيع إطعامهم." قصتها ليست استثناء، بل هي انعكاس لمعاناة مئات النساء في العاصمة والمحافظات، ممن دفعتهن الأزمات الاقتصادية إلى البحث عن أي وسيلة للبقاء على قيد الحياة.
ظروف عمل قاسية
تعمل هؤلاء النساء لساعات طويلة، تبدأ من الفجر حتى غروب الشمس، وسط النفايات التي تحمل مخاطر صحية جسيمة: أمراض جلدية، التهابات تنفسية، وتعرض دائم للجروح نتيجة أدوات حادة أو مواد ملوثة.
غياب معدات السلامة يمثل خطرًا مضاعفًا. فالقفازات والكمامات نادرة، والأحذية الواقية غائبة تمامًا. وتروي إحدى العاملات: "كثيرًا ما نُجرح من زجاج مكسور أو إبر طبية. نتعالج بماء وملح فقط لأننا لا نملك ثمن الدواء."
الوصمة الاجتماعية
تواجه النساء العاملات في النفايات وصمة اجتماعية شديدة. ينظر المجتمع إليهن كـ"منبوذات"، فيما يتعرض أطفالهن للتمييز في المدارس بسبب عمل أمهاتهن. هذا العبء النفسي يزيد من قسوة حياتهن اليومية، حيث يُنظر إلى المهنة على أنها "دون المستوى الإنساني"، رغم كونها عملًا أساسيًا للحفاظ على البيئة وإعادة تدوير الموارد.
غياب التنظيم والدعم
لا توجد إحصاءات رسمية دقيقة عن عدد النساء العاملات في هذا المجال، وتشير تقديرات غير رسمية إلى أن المئات منهن منتشرات في المدن الكبرى مثل بغداد، البصرة، والنجف. هؤلاء النساء يعملن خارج أي إطار نقابي أو قانوني، فلا ضمان اجتماعي ولا تأمين صحي يغطي إصاباتهن. البلديات، من جانبها، تتعامل مع القضية باعتبارها "ظاهرة هامشية" بدلًا من إدماجها في سياسات إدارة النفايات أو تشغيلهن في وظائف رسمية.
وهكذا تبقى النساء رهينات لسوق غير منظم، يسيطر عليه سماسرة يشترون المواد القابلة للتدوير بأبخس الأثمان.
طفولة معذبة
في كثير من الحالات، لا تعمل المرأة وحدها، بل يرافقها أطفالها الصغار الذين يساعدونها في جمع وفرز النفايات. هؤلاء الأطفال ينقطعون عن الدراسة، ما يُعمّق دائرة الفقر والحرمان ويعيد إنتاجها عبر الأجيال. ورغم الصورة السلبية المرافقة للعمل في النفايات، إلا أن ما تقوم به هؤلاء النساء يُساهم - دون قصد - في تخفيف العبء البيئي. غير أن غياب برامج رسمية لإعادة التدوير يجعل هذا الجهد الفردي بلا قيمة مستدامة، إذ يظل في إطار النشاط غير المنظم والمرتبط بربح يومي محدود.
الحاجة إلى تدخل حكومي
أمام هذا الواقع، تبدو الحاجة ملحة إلى تدخل حكومي يعالج القضية من زوايا متعددة:
1. الاعتراف الرسمي بدور العاملات في النفايات كجزء من منظومة إدارة البيئة.
2. توفير بدائل عمل لائقة للنساء المعيلات، سواء من خلال مشاريع صغيرة أو برامج دعم اجتماعي.
3. إدماج الأطفال في التعليم عبر منح مالية مشروطة، تقلل من ظاهرة التسرب المدرسي.
4. ضمان الحماية الصحية والاجتماعية للعاملات، باعتبارهن ضمن الفئات الأكثر هشاشة.
أصوات منظمات المجتمع المدني
عدد من منظمات المجتمع المدني حاولت تسليط الضوء على معاناة هؤلاء النساء. لكن جهودها ما تزال محدودة بسبب نقص التمويل وضعف التنسيق مع الجهات الحكومية. وتؤكد ناشطات أن تجاهل هذه القضية يعني ترك مئات العائلات في دوامة فقر مزمنة، ما يُهدد بانتشار الظاهرة على نطاق أوسع.