أغادرَتْنا تلك الأيام، ونحن الأوفياء لها ؟
هل أتحدث عن السجايا الراقية، أم الأمثلة النادرة؟ عن التواضع واللطف والأريحية، أم عن مودة الرفقة وعنوان الصداقة؟ عن كرم الروح والزهد، أم تحدّي الصعاب، والاصرار الذي لا مثيل له، على مسير شاق، مفعم بالمحن والدروس والآمال؟
أجل، أتحدث عن (علي مالية)، إبن المحمودية الجريء، الذي اقتحم، يافعاً، سماء الكفاح، فأرشدته الى سبيل الشيوعية، ومنحته راية يحملها مناراً للماشين، ومصباحاً ينير دروب السائرين.
و(علي مالية) هو اسمه المستعار الذي عُرف به منذ السنوات الأنصارية في كردستان حتى أيامنا، أما اسمه الحقيقي فهو (جواد كاظم الطائي – أبو أوس).
نحن في عام الذكرى التسعين لتأسيس الصحافة الشيوعية في العراق.. ونحن نقرأ في رسائل الأشواق صفحة مضيئة من صفحات جندي مجهول يحمل اسم (علي مالية).
محطات كثيرة تلك التي جمعتني بأبي أوس خلال ما يقرب من نصف قرن من الزمن. سأكتفي، مضطرا، الى الحديث عن ثلاث منها.
المحطة الأولى هي "طريق الشعب" في سبعينيات القرن الماضي، حيث كانت أول معرفتي به، عندما كنت سكرتير تحرير "طريق الشعب"، وكان هو مسؤولا عن الادارة في مؤسسة (الرواد)، التي كانت تُطبع فيها صحيفة الحزب ومجلته (الثقافة الجديدة)، وسائر صحفه ومطبوعاته. وكان، الى جانب ذلك، عضوا في اللجنة الحزبية القيادية للمؤسسة، مع نخبة من الكوادر الحزبية القيادية، وكان يقودها الرفيق الراحل سليمان يوسف اصطيفان (أبو عامل). وقد استشهد بعض العاملين في منظمة المؤسسة من صحفيين وفنيين وشغيلة تحت التعذيب في أقبية الدكتاتورية الفاشية، أواخر سبعينيات القرن الماضي وأوائل ثمانينياته.
وفي تلك السنوات برزت قدرات جواد كاظم الطائي، الذي كان قد درس الاقتصاد والمحاسبة في الجامعة، في مجال الادارة، وتجلت كفاءته ونزاهته وسماته الشخصية الرفيعة، وكان أحد أركان تلك المؤسسة العتيدة، التي لعبت دورا هاماً معروفاً في حياة الحزب وصحافته.
المحطة الثانية، وهي الأهم والأكثر تميزاً، هي محطة (الأنصار). سأبدأ من نهايتها، ربما من تموز عام 1988 عندما اشتد الهجوم بالأسلحة الكيمياوية من جانب الدكتاتورية على مواقع حزبنا القيادية والاعلامية والأنصارية..
أتذكر أن علي مالية جاءني في تلك الأيام، وكان المستشار السياسي لفوج المكتب السياسي. وكان فصيل (دجلة)، التابع للفوج، هو المسؤول عن حماية (الاعلام). أبلغني، كرفيق وكصديق، أنهم كانوا قد تلقوا، قبل أيام، قرارا من المكتب العسكري للحزب بالانسحاب شرقا باتجاه موقع (بيربنان). كان علي مالية متقداً بالغضب والشجاعة، وقد جاءني وكأنه يريد أن يعتذر عن اضطرارهم الى "التخلي" عن حمايتنا و"تركنا" وجها لوجه أمام قوات الدكتاتورية. لم يكن هناك أي سوء فهم، فقد جاء يودّعني كرفيق وصديق، على أمل اللقاء في يوم آخر، ربما، وهو ما حصل بالفعل أثناء الأيام الأخيرة من الانسحاب. أتذكر أننا بقينا أياما عديدة في موقع (الاعلام)، وكنا ستة رفاق بعد أن انسحب الرفاق المرضى وكبار السن وبعدهم الرفيقات، وبقينا، نحن الستة، لاكمال تصفية موقع (الاعلام) من دفن لبعض الأجهزة والوثائق، بعد نقل أجهزة الاذاعة الى موقع آخر، على أمل استئناف البث من هناك.
كانت تلك الأيام من أصعب ما واجهناه. ولقصة الانسحاب، والوصول الى موسكو !!، نعم من وادي خواكورك الى موسكو، تفاصيل كثيرة ومروعة، آمل أن يسعفني الوقت يوما لكتابتها.
لكنني، على أية حال، أتذكر أننا التقينا في خيمة المؤتمر الرابع للحزب، الذي عقد في منطقة ما بوادي خواكورك في كردستان، وكان علي مالية عضوا في اللجنة التحضيرية الفنية للمؤتمر. كان أبو أوس في موقع (أرموش) الذي يبعد ما يزيد قليلا عن الساعة (مشيا على الأقدام طبعا) من موقع الاعلام. كنت أزوره بين حين وحين، وكنت دوما أتوق الى قهوته (النسكافه) التي يعدها بطريقة مميزة. وكم قضينا من أيام وأحاديث، وكان هو ورفاق آخرون يأتون لزيارتنا في الاعلام، خصوصا عندما تكون لدينا فعاليات ثقافية.
وسواء في (أرموش) أو (دجلة) أو مواقع أخرى كنت أرى مكانته المميزة بين رفيقاته ورفاقه. فهناك تجلت سماته القيادية والشخصية، وبشكل خاص قدرته على كسب قلوب الآخرين، وروح التضامن في تلك السنوات الشاقة التي شهدت أجمل اللقاءات، مثلما شهدت أعظم الأحداث في حركتنا الأنصارية وفي تاريخ حزبنا.
في المحطة الثالثة، وهي العودة الى "طريق الشعب"، حيث كان مديراً للادارة والتحرير خلال سنوات عديدة، مارس فيها دوراً بارزاً في حياة الصحيفة، حتى عودته قبل أربع سنوات الى منفاه الهولندي. ومن هذا المنفى ظل يواصل عمله الدؤوب، رغم متاعبه الصحية، مجسداً روح التفاني الكفاحية، حتى ليظن من يعرفه أنه من الصعب عليه أن يعيش دون التواصل مع الصحيفة والاسهام فيها.
كنا في تلك السنوات نعمل معا، وغالبا ما كنا نسافر الى أربيل، حيث نسهم، من بين نشاطات أخرى، في نشاط (رابطة الأنصار الشيوعيين)، وحيث لقاءاتنا مع رفاق وأصدقاء أنصار هناك، وبشكل خاص صديقينا (كاوة محمود) والراحل (ئاشتي)، اللذين لدينا معهما أجمل الذكريات.
اليوم أحتفي بأمثولة علي مالية التي قلّ نظيرها.. تختلف معه، ولكنك تبقى صديقا له، ومتفاعلا مع جدالاته، ومحبا لروحه المنفتحة والمتسامحة .. أحاول إضاءة صفحات من تاريخ ذلك المناضل الذي كان غالبا ما يبدع من خلف الكواليس.
كم تقاسمنا خبز أيام مريرة.. وتمدّدنا في ظلال من الأرق، تحت سماوات كانت، في أحايين، أشد قسوة في عواصفها العاتية، وهي العواصف التي ساهمت في صياغة شخصية علي مالية، وسط لهيب المعارك، وتحت عنوان "صداقة الخنادق".
كنتَ دائما تمنحنا يدك ومحبتك، أنت يا وارث ربيع تزهر فيه أفكارنا، ومثير أسئلة حارقة، ومطلق نداءات تقرع الأجراس، فنمضي معك تحت رايتنا، نتحدى الأمواج، ونقود السفن الى الشاطيء الذي به مازلنا نحلم.
سلاما علي مالية وأنت تعيدنا الى الينابيع..
سلاما وأنت ممن قُدَّت أرواحهم من بلّور..
مصباحك ينير دروبنا في كل حين..