اخر الاخبار

في بداية السبعينيات، وبين جدران قاطع الإعدام في سجن أبو غريب، احتفلنا بعيد الحزب… نعم، حتى في أحلك الظروف وأقساها، كنا نحتفل. افتتح الرفيق الشهيد سهيل شرهان الاحتفال بقصيدة خلدت معنا المعنى الحقيقي للانتماء:

 

بيك يا حزبي نتمسك أشد من رهبان دير

لو عمرنا يصل حدّه، نجيب عمر أطفالنا نكمل المسير

 

هذه الكلمات لم تكن مجرد شعر، بل عهدٌ على الاستمرار مهما بلغت التضحيات.

واليوم، وبعد تسعين عامًا على تأسيس الحزب، اجتمع الشيوعيون وأصدقاؤهم وأحباؤهم ليحتفلوا بهذه المسيرة الغنية بالتضحيات والعطاء. لم يسعفني القلم في حينه، بسبب وعكة صحية، لكن الذاكرة أبت إلا أن تشارك، وأن تحكي بعضًا من سيرة حزبٍ صاغ وجداننا، وسيرة جيلٍ عاش الفكرة ودفع ثمنها دون تردد.

حين تعود بي الذاكرة إلى محطات النضال، أشعر بأنني لا أستحضر الماضي فحسب، بل أُعيش أيامه. سنوات السجن، المنفى، الرفاق الذين غابوا في غياهب الظلم، والذين ما زالوا يسيرون بيننا حاملين ذات الشعلة… كل ذلك لا يُنسى، بل يعيش معنا بنفس وتيرة أعمارنا.

 لقد علّمتني السجون أن هناك أنواعًا للصمت: الصمت الغاضب، والصمت الرافض، وصمت المحبة، بل وصمت الكرامة.

ومن أنواع الصمت هذه يولد الانفجار… كلمات تُكتب في الذاكرة قبل الورق، وتمرّ كأنها محطات عمرٍ نُحتت في الصخر.

 غادرتُ سجون بعقوبة، بغداد، الحلة، الرمادي، نكرة السلمان، العمارة، الموصل، وقواطع الإعدام الأربعة… لكن هذه السجون لم تغادرني. عشت داخلها أربعة عشر عامًا، لكنها تعيش فيّ كل يوم، حاضرة في تفاصيل الذاكرة وملامح النضال.

ولا تقتصر حكايتنا على السجون، بل تمتد إلى ساحات العمل الجماهيري. من سكرتارية اتحاد الطلبة في خانقين، إلى سكرتارية اتحاد الشبيبة الديمقراطية العراقي، وعضوًا في سكرتارية اتحاد الشبيبة العالمي. وفي أحد الأيام حين صدر الحكم بالإعدام، طُلب مني التوقيع على بيان “حل اتحاد الشبيبة”، فكان جوابي ساخرًا وبسيطًا:

“شنو اتحاد الشبيبة دكان؟ أنزل الكبنك متى ما أريد؟!”

 لقد علمنا الحزب عبر هذه العقود أن الكفاح ليس خطابة ولا شعارات، بل مشروع إنساني عميق. تعلمنا أن النقاء يزيد صاحبه معاناة وشقاء، وأن العقل وحده لا يكفي ما لم يرافقه وعي إنساني. وأن العاقل يتعلم من أعدائه، والغبي لا ينتفع من أصدقائه.

وأنّ علينا أن نخاطب الجاهل كما يخاطب الطبيب مريضه، لا بوعظٍ بل بفهمٍ ورحمة.

 وفي هذه المسيرة، أدركنا أن الإبداع لا يولد من الفردانية، بل من العمل الجماعي، من الحوار، من الاختلاف البنّاء لا الهدم، ومن الرؤية الواقعية التي لا تخاف مواجهة الحقيقة. وأن الصوت الهادئ أقوى من الصياح، والحياة لا تُصغي إلا لمن يهمس بعقلٍ مفتوح وقلب نابض. نعم، عشنا عمرًا طويلًا، وعلمتنا الأيام أن نختار أصدقاءنا كما نختار أفكارنا: بوعي ومسؤولية.

 لقد أيقنت دائمًا أن المواطن لا يكون حرًّا ما لم يحترم حقوق الآخرين، وأن الإبداع الفردي لا يُثمر إلا من خلال العمل الجماعي والحوار الرفاقي الصادق. وأن لا مستقبل بدون تعددية وتنوع، وبدون مواجهة الماضي نقديًا، لا عاطفيًا.

لا حاجة لتكرار الحديث عن التخلف، فملامحه بادية في كل تفاصيل الحياة. وبدلًا من أن نشكو، علينا أن نحلّل، ونعمل، ونتغيّر. وكما قال الإمام علي (ع): “العاقل من يضع الشيء في موضعه.”

في تسعين عامًا، لم يكن الحزب مجرد تنظيم سياسي، بل مدرسة فكرية وأخلاقية. علّمنا أن الحرية الحقيقية لا تُنال ما لم تُحترم حقوق الآخرين، وأنّ كل إبداع فردي هو في جوهره ابنٌ للثقافة الجماعية، وأنّ قوة الحزب في تنوعه، وتعدديته، وقدرته على تجديد نفسه من الداخل لا من الخارج.

إن ثقافتنا الشيوعية ليست جامدة، بل متحركة، نقدية، تحرّر الفكر من قيود الماضي، وتحاور التراث لا لتقديسه بل لفهمه وتسخيره لخدمة الحاضر والمستقبل.

 نعم، نحن نعيش في مجتمع تحكمه العشيرة والدين والطائفة، لكنّنا لسنا أسرى هذا الإرث. علينا أن نعيد قراءة تراثنا بعين ناقدة، نستخلص منه الدروس لا القيود. فالتراث معلم، لا سجان.

وإذا أردنا الخلاص مما نحن فيه، علينا أن نبتعد عن الشخصنة والانفعالات، وأن نعود إلى جوهر القضايا. فالكلام صفة المتكلم، وكل كلمة تُقال ترسم ملامح ثقافة صاحبها.

 إن التاريخ لا يُستخدم للتبرير، بل للفهم والتحليل. وما تحقق بالأمس يساعدنا على فهم اليوم، وصياغة غدٍ أفضل. لقد علمتنا الحياة والحزب أن بناء الذات ضرورة لنهوض الجماعة، وأن قوة الحجة في وضوحها.

 وإذا كنا نسعى لبناء وطن حر وشعب سعيد، فلابد أن نُدرك أن هذا المشروع لا يتحقق إلا بثلاثية الوعي، والإرادة، والعمل الجماعي وأنه ليس مجرد عبارة، بل هو مشروع حياة ومنهج نضال. والوحدة الرفاقية، والعمل الجماعي، هما السلاح الذي به نحفظ المعرفة من التشتت، وبه نعيد إحياء الفكر وتجديده عبر الحوار، والاجتهاد، والممارسة. وفي هذا السياق، يبقى شعار الحزب العتيد “وطن حر وشعب سعيد” عنوانًا لمنهج نضالي متجدد، يحمل في روحه قيم الحرية والعدالة والمساواة، ويؤمن بأن الكلمة المخلصة، والعمل الصادق، وروح الفريق، هم السلاح الحقيقي لبناء مجتمع عادل.

 وختامًا، لا يمكننا تحقيق النصر دون إرادة، ولا نبلغ الحقيقة دون تجاوز الذاتية. الحياة منحتنا هديتين لا تقدران بثمن: الكتاب والصديق. فلنحافظ عليهما.

في عيد الحزب التسعين، دعونا نحتفل بالمسيرة لا بالكلمات، بالتجربة لا بالشعارات. لنجدد العهد مع من مضوا، ومع من يكملون الطريق

 وفي عيد الحزب التسعين، أذرف دمعة فرح، وأتذكّر كلمات الأعرابية حين سئلت: “من أحب أولادك إليك؟” فقالت: غائبهم حتى يعود، ومريضهم حتى يُشفى، وصغيرهم حتى يكبر.

 فإلى كل رفاقي في الدرب الطويل، لكم مني كل الوفاء، ولنحمل مشاعل النضال معًا، كما حملناها بالأمس، ونحملها اليوم، حتى نضيء بها غدًا أكثر عدلًا وكرامة.