اخر الاخبار

حين هتف بوشكين مخاطبا الديسمبريين: "لن يضيع عملكم الحزين، ولا طموحكم الى الفكر السامي ... ... كونوا على ثقة يا رفاقي أن فجر السعادة سيأتي، وأن روسيا ستنهض من سباتها، وستسجَّل أسماؤنا على أنقاض حكم الطاغية"، كان الشاعر الديسمبري ألكسندر أودويفسكي على حق عندما رد عليه: "لن يضيع عملنا الحزين، فمن الشرارة يندلع اللهيب". وكان لينين على حق عندما وضع في صدارة الإيسكرا (الشرارة)، صحيفة الحزب الأولى، شعار "من الشرارة يندلع اللهيب".

من ذلك البيت المضيء في شارع السعدون ببغداد، في سبعينيات القرن الماضي، كانت المشاعل تنطلق في شوارع بغداد ومدن البلاد .. كانت المواكب تنقل الضياء الى بيوت المحرومين، وتنير الدروب للسائرين نحو الحرية، وتسقي العطاشى من روافد المعرفة وغدران الكفاح.

أما الدروس التي تعلمناها في "طريق الشعب" فلا تحصى .. فهي لا تتوقف عند البحث عن الحقيقة، وتطويع اللغة المؤثرة في الكتابة، وإشاعة قيم الجمال وثقافة التنوير، وتثقيف المضطهَدين بما يتعين عليهم من مسير، وتجسيد المثل الملهمة، وتقديم دروس في الروح الثورية، والتعلم، والتواضع، والاستعداد للتضحية من أجل الغايات الساميات ... حتى نضيء، في واقعنا، وصية لينين: الجريدة داعية، ومعبيء، ومنظّم جماعي.

و"طريق الشعب" كانت تمرينا كفاحيا .. فما تزال شرارة الفكر النيّر تقدح زناد العقول، وتكشف عن تلك الجمرة المتقدة تحت الرماد، وتراكم الخبرة التي تمس اليها الحاجة في كل حراك فكري وثوري، حتى تكون آصرة للسخط على واقع يريد سَدَنَة التخلف تأبيده، بينما تَعلّمنا في "طريق الشعب" أننا نريد الاطاحة بعالمهم.

وحول هذا العمل الذي يبدو بريئا وصغيرا بحد ذاته كنا ننتمي الى جيش من مناضلين مجربين، في عقولهم يضيء الوعي، وينهض التوق الى الجمال .. رسائل التنوير التي يبثونها هي رسائل احتجاج ضد ثقافة القطيع ومستنقعات الانحطاط.

في "طريق الشعب" تعلمنا كيف نكتب، وكيف نحلل، وكيف نجادل، وكيف نفهم الواقع ونتعامل مع الحقائق، وكيف نتحدى الراهن ونحلم بالغد.

وفيها تعلمنا كيف ندافع عن مصالح الكادحين، وعن حقوق وحريات شغيلة اليد والفكر، وكيف نتواصل مع الناس ونكون وسطهم، نعلمهم ونتعلم منهم، فكلنا تلاميذ في مدرسة الحياة .. فيها تلقينا دروس التواضع، فكان سبيلنا الى الأفكار العظيمة. ولم يكن ذلك مجرد ممارسة تقليدية للكتابة، بل ممارسة للوعي الذي يتعمق بالمعرفة والحوار والتحدي.

وفي "طريق الشعب" كنا ندرس على أيادي أساتذة مَهَرة وأجلّاء، منحونا الخبرة، وعلّمونا أبجدية الصحافة والنضال، وكانوا المثال الذي يرشدنا في المسير ويمضي بنا الى الضفاف .. كانوا يمنحوننا الرجاء فنسير معهم الى الحق والحقيقة والجمال، ونثق أننا لن نصل الى مرتجانا ما لم نرافقهم في المسير.

وعلى أيادي أولئك الأساتذة تعلمنا كيف نقرأ ماركس، وكيف ننظر الى ما افتتح به كتابه الرائع (الثامن عشر من برومير لويس بونابرت)، وقد كان نجم المستبد الجديد يصعد، فنتذكر كيف أن إبن الأخ حل محل العم، ونرى كيف أن التاريخ يعيد نفسه في المرة الأولى كمأساة، وفي الثانية كملهاة .. اليوم نتذكر كيف أن العدد الألف من "طريق الشعب"، الذي كان محطة مضيئة في تاريخ الصحافة العراقية، قد هزّ عرش ذلك الدكتاتور.

وفي "طريق الشعب" تعلمنا كيف نواجه العاصفة، ونراوغ الرقابة، ونتفنن في استخدام التوريات والمجازات والرموز .. كنا نسير على سكة من أشواك، أدمت أقدامنا، وكان ذلك المسير هو الذي جعلنا ننتمي الى جيش المبشرين بأيام تعيدنا الى الأمل، فنواصل التحدي.

وفي الصحيفة تعلمنا أن لا نخشى من الاعتراف بهزيمة، ومن النهوض من كبوة، ومن إعادة النظر في خطواتنا، حتى نعبر الجسور، ونمضي منشدين للحياة.

وفي "طريق الشعب" كنا في مصير الكفاح نأتلف حتى عندما على النور نختلف .. وفيها كانت رفقة وصداقة أجيال من كتّاب ومحررين وفنيّين وشغيلة في مدرسة قلّ نظيرها، وظل مثالها يسطع في سماء الصحافة الشيوعية في العراق.

كنا، نحن الفتية، نغني مع ماري هوبكنز، المتمردة والثائرة مثلنا: "تلك كانت هي الأيام"!

وفي الصحيفة منحنا أساتذتنا ذلك الإرث الغني للثورة التي تدعو اليها صحافتنا .. وفيها تلقينا أولى الدروس في التسامح والاختلاف واحترام الرأي الآخر، والنقد وممارسته، ورحنا نمتلك ذلك العقل النقدي الذي أعاننا على أن نقيّم عملنا وندقق خطواتنا، وجعلنا قادرين على أن نغور في الأعماق لنكتشف الحقائق.

وفي "طريق الشعب" تعلمنا كيف أن طرح الأسئلة الصحيحة قد يكون أكثر مشقة من تقديم الاجابات .. وفيها تعلمنا أن الاخفاق ليس سوى محطة نتوقف فيها استعدادا لمواصلة الطريق، وفرصة تقول فيها التجربة إنه ينبغي لنا أن نحلم.

وفي هذه الصحيفة تعلمنا كيف نقنع الأنهار أن تجري وئيدة حتى يكمل حمَلَة مشاعل الحقيقة أناشيدهم.

وفي "طريق الشعب" تعلمنا كيف نقرع الأجراس حتى يستيقظ السخط، وينهض ضحايا الاضطهاد، وتخفق رايات أمثولة الشهداء التي تلهمنا، وعرفنا كيف أن ذلك الشبح الناهض من الرماد يمضي حتفاً للجائرين .. ونسير نحن على خطى الشهداء "شرارة" للحالمين. 

نمضي الى أمام، ونحن ننحت في حجر، ونركب المخاطر، ونحلم، ونتعلم كيف "نخسر أغلالنا لنكسب عالماً بأسره".

اليوم، وفي كل يوم، نردّ الجميل الى معلمتنا الأولى "طريق الشعب" التي منحتنا الأيادي والينابيع والآفاق.. وعلمتنا كيف نحميها بحدقات العيون!