اخر الاخبار

في ظهير أقل حرارة من أيامنا هذه، كان الدخول الأول لمبنى صحيفة "طريق الشعب"، في شارع ابي نؤاس، دخولا ممتلئا بالخوف لصبي، بلغ السادسة عشر من عمره تواً، كيف يمكن أن يحقق حلما راوده منذ الطفولة، ان يَكتب في كرة القدم تلك المستديرة التي رسمت حياتها لاحقا في ميدان العمل.

لحظة "الرهبة"، في أن يُقرأ اسمك يوميا في صحيفة يومية، سرعان ما تحول إلى فرح غامر، حين صدرت المادة الاولى، حاملة اسمي، واتذكر انها كانت المادة الصحفية الاصعب في حياتي المهنية لأني اعدت كتابتها لأكثر من عشرين مرة، فالأمر كان اشبه بتجربة في الهواء الطلق، في لحظة جاءت بها الرياح عالية، حيث احيانا لا جدوى للقوانين.

بعد المادة الأولى التي نشرت في صفحة الرياضة، بدا الحلم يكبر، أذهب إلى مدرستي الإعدادية صباحا، وظهرا أساهم في كتابة صفحة رياضية، التي أصبحت صفحتين لاحقا، أشرفت على العالمية منها، وبعدها بدأت العمل كمصمم إضافة إلى التحرير الرياضي.

سارت الايام، واصبحت "طريق الشعب"، ليس مكانا للعمل فقط، بل منزلا نستقر فيه انا وزملاء كثر، اذ اضطر بعضهم للمكوث في مبنى ابو نؤاس، بسبب العنف الطائفي حينها، بينما آخرون من محافظات اخرى.

وبالتزامن مع العمل، كان الحديث يكبر حول التنظيم الحزبي، حيث بعض العاملين في الجريدة، لديهم تنظيمات داخل الحزب، بينما كنت لم احسم خياري بالانتماء ولم أواجه اي ضغط بذلك، حتى اخذتني أقدامي ذات يوم، بعد قناعة تامة، إلى ساحة الاندلس، هناك حضرت اول اجتماع حزبي، فأصبح واجبي مضاعفا ما بين الجريدة والتنظيم الطلابي.

البعض يقول إنه يتعلم في كل يوم، بينما، كنت اتعلم عند كل ساعة في هذا المبنى الفخم بفكره والشخوص الموجودين به، حتى اصبحت اليوم مفتخرا بالقول، إنني عملت في مؤسسة واحدة مع "الراحل عريان السيد خلف، الاستاذ مفيد الجزائري، المعلم علي السراي، د. صبحي الجميلي وغيرهم أسماء كثيرة".

وفي رحلة الذاكرة مع هذه الأسماء، جلست ذات يوم كما جرت العادة دائما مع الراحل عريان السيد خلف وقلت له "أنت سعيد هنا دائما"، لحظتها كنا في الغرفة المطلة على شارع ابي نؤاس تحديدا وبنفس عميق مع سكارته قال "هذا المكان روح، لا فلوس ولا شي آخر".

وقد اكون "مشكلجيا" أحيانا، لكن في هذا المكان كانت أغلب تقاطعاتي في العمل مع والدي الذي فاجأني ذات يوم بطلب زيادة لراتب أحد الزملاء لكنه رفض أن يقدم ذات الطلب لي، وبعتاب شديد قلت له لماذا، رد "ما تستحق هذه الزيادة"، لحظتها شعرت بغضب كبير لكن بعدها تيقنت أن قيمة هذا المكان تجعلك تتجرد عن كل أحاسيسك الأخرى وتخلص للمكان فقط.

غادرت المكان لكن روح الصبا بقيت في جدران مبنى أبي نؤاس، وأقداري تحتم دوما أن أسير قرابة الأماكن التي أحبها "طريق الشعب" أمامي وفي ذاكرتي، ذكريات بناء إنسان لولا هذا المكان لما كان شيئاً اليوم.

ربما هو اتفاق تام، بين كل من ركب قطار العمل في "طريق الشعب"، ان وميض الحنين يأخذك دوما اليها، حيث الاشياء ثابتة لا تتلاشى في مسكن الروح، المسكن الذي لا يصله أحد الا انت لحظة الصفاء الذهني، حينها تكون انت الشاهد الوحيد على الصدق تجاه الذكريات الخالدة والتي لو صورت في مشهد قصير قبل ان تغادرك الروح فجدران طريق الشعب لا بد ان تكون حاضرة كشيء اساسي.