بعد الحكم على الرئيس البرازيلي الفاشي بولسينارو بالسجن بأكثر من 27 سنة، أصدرت محكمة باريس الجنائية، الخميس الفائت، حكمها على الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي بالسجن 5 سنوات، بتهمة تمويل حملته الانتخابية عام 2007 بأموال من الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي. وثبت لدى المحكمة، إن ساركوزي وشركاءه شكلوا منظمة إجرامية بهدف الحصول على أموال من القذافي. وصدر القرار بعد مرافعات استمرت عدة شهور. ويمثل القرار سابقة قضائية في تاريخ الجمهورية الفرنسية.
وتضمن قرار الحكم تجريد ساركوزي من حقوقه المدنية بما في ذلك حقه في الترشح للانتخابات. وكذلك دفع غرامة قدرها 100 ألف يورو. وجاءت سنوات السجن مساوية لسنوات دورته الرئاسية، وهي الحد الأقصى للعقوبة المنصوص عليها في القانون الجنائي الفرنسي. لقد حمل قرار الحكم رسالة واضحة وشديد، وتضمنت أسباب الحكم الإشارة إلى ممارسات "خطيرة للغاية".
شكلت معاملة القضاء لساركوزي كرجل عصابات أو إرهابي لتشكيله عصابة إجرامية صدمة لكثيرين. وأعلنت رئيسة المحكمة، ناتالي غافارينو، أن ساركوزي سيبدأ عقوبته بالسجن "قريبًا"، بغض النظر عن تقديمه استئناف من عدمه، وهو ما أعلنه ساركوزي فورًا. ووفقًا لقواعد السجن، سيتعين عليه قضاء ثلاث سنوات على الأقل من أصل خمس سنوات خلف القضبان؛ ويمكن نظريًا قضاء السنتين المتبقيتين في المنزل مرتديًا قيد المراقبة، كما هو حال الرئيس البرازيلي السابق.
الكشف عن الفضيحة
منذ أن نشرت مجلة ميديابارت الإلكترونية تحقيقها في فضيحة فساد الأموال الليبية عام ٢٠١١، أصرّ ساركوزي على براءته. وهو الآن يحتج على "ظلمٍ لا يُطاق"، يمارس بحقه، و"يهدد سيادة القانون تهديدًا خطيرًا".
ولا يقلل من فضيحة الرئيس الأسبق أن المحكمة وجدت ثلاث تهم أخرى غير مُثبتة بشكل كافٍ: الرشوة السلبية، واستخدام الأموال المختلسة، والتمويل غير القانوني للانتخابات. ووفقًا للمحكمة، كانت هناك وثائق مفقودة وتناقضات بين الشهود، مما جعل من المستحيل تحديد من ومتى وكم ولأي غرض أعطى أو تلقى أموالًا من ليبيا. ومع ذلك، وجدت المحكمة أمرًا مُريبًا.
على سبيل المثال، الود المفاجئ الذي أبداه وزير الداخلية الفرنسي، والمرشح الرئاسي ساركوزي تجاه ديكتاتور سيئ السمعة كالقذافي وأتباعه، مثل رئيس المخابرات عبد الله السنوسي. كما وجدت المحكمة أن نية رئيس الدولة المُستقبلي الحصول سرًا، وخلافًا لكل الأعراف الأخلاقية، على بضعة ملايين من ليبيا لحملته الانتخابية أمرٌ غريب.
عوقب ساركوزي أساسًا لتحضيره بنشاط لاتفاق مع "الشيطان"، كما وصفته المحكمة. لقد تورط في هذه العملية وسطاء سريون، مثل رجل الأعمال الفرنسي – الجزائري ألكسندر جورهي، الذي عيّنته فرنسا وسيطا لأبرام عقود قطاع صناعة الأسلحة. كما تورط زياد تقي الدين، الذي توفي أخيرا ويُقال إنهما استخدما رشاوي لضمان إتمام هذه الصفقات. كما تورط في هذه العملية برايس هورتفو وكلود غيان، مستشارا ساركوزي عندما كان وزيرًا للداخلية، وأصبحا وزيرين في الحكومة التي تشكلت بعد فوزه.
في سنوات ٢٠٠٥ -٢٠٠٧، سافرا شركاء ساركوزي سرًا إلى ليبيا لحضور عدة اجتماعات، لكن لم يُقبض عليهما بحيازة مباشرة لأموال غير مشروعة. حُكم على اثنين من المقربين من الرئيس بالسجن سنتين وست سنوات على التوالي بتهمة الفساد السلبي، أي المشاركة النشطة في إتمام الصفقات. وحُكم على عدد من الوسطاء والممولين، معظمهم من الخارج، بالسجن لعدة سنوات وغرامات باهظة. وبالمقابل تمت تبرئة إريك وورث، أحد المقربين من الرئيس آنذاك، والذي شغل منصب أمين صندوق الحملة الانتخابية وأصبح وزيرًا لاحقًا.
ردود فعل مختلفة
انقسمت ردود الفعل على الحكم بقدر انقسام الأطياف السياسية في البلاد: رحّب باتريك ليفاس، رئيس منظمة الشفافية الفرنسية غير الحكومية لمكافحة الفساد، بهذا الحكم الرائد قائلاً: "قبل أقل من عامين من الانتخابات الرئاسية المقبلة، علينا جميعًا أن نتعلم من دروس هذه العملية. اليوم، ليس لدينا أي ضمان بعدم تكرار مثل هذه التجاوزات. يجب تنظيم التمويل السياسي بشكل صارم لمنع مثل هذه الفضائح في المستقبل".
أعربت الأوساط المحافظة واليمينية عن غضبها الشديد إزاء إدانة رئيسها السابق، ساركوزي، ووزرائه السابقين. وصرح جوليان أوبير، نائب رئيس حزب الجمهوريين، بأن القضاء "أهدر شرف رجل". وتحدث زميله في الحزب، النائب ستيفان لو رودولييه، عن "موجة من العار" ودعا الرئيس الحالي، إيمانويل ماكرون، إلى العفو عن ساركوزي فورًا، بما يخدم مصلحة الوطن.
أما زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان، التي أُدينت هي نفسها بالاختلاس واستأنفت الحكم، غاضبة من الانتهاك المزعوم لمبدأ افتراض البراءة، إذ يجب على ساركوزي أن يبدأ عقوبته بالسجن قبل بدء استئنافه.
لقد لقن القضاء في فرنسا والبرازيل كبار السياسيين ذوي الامتيازات درسًا مهما، إذ ظنّوا أنهم يستطيعون الإفلات من العقاب. فالرئيس السابق ليس فوق القانون. ترى هل سيتعظ من هذه الدروس اركان منظومة الفساد في العراق؟