تصاعدت في الاونة الاخيرة موجات من التحريض الرقمي وحملات الضغط التي لا تكتفي بتوجيه المزاج العام، بل تفرض إيقاعها على مؤسسات الدولة نفسها.
ومع كل حدثٍ يُلغى بقرارٍ ارتجالي، ومع كل رأي يُسكَت تحت وقع التهديد أو التشويه، يتكشف مشهد أعمق: دولة تُدار بردود الفعل أكثر مما تُدار بالقانون، وسلطة تنحاز — بصمت أو رضوخ — إلى الجهات الأكثر قدرة على اثارة الضجيج، بينما تنمو في المجتمع أصوات ترغب في جرّ الجميع نحو لون واحد.
كيف تعمل الشبكات؟
في هذا الصدد، حذّر رئيس مؤسسة مسارات، سعد سلّوم، من تصاعد ما وصفه بـ”الدعاية الرقمية الممنهجة” التي تتداخل فيها تقنيات التأثير النفسي مع هندسة الوعي بهدف إعادة تشكيل المجال العام في العراق.
وقال سلوم في حديث مع "طريق الشعب"، إن هذه الشبكات تعمل وفق آليات ثابتة تبدأ بصناعة سرديات موحّدة، مروراً بتشويه الأصوات النقدية وتحييدها، وصولًا إلى تضخيم قضايا هامشية لصرف الأنظار عن الملفات الأساسية وخلق انقسامات مصطنعة عبر استثارة الهويات الفرعية.
وأضاف أن تأثير هذه الدعاية "لا يقتصر على الفضاء الالكتروني، بل يمتد الى السياسة والمجتمع عبر ثلاثة مسارات متوازية؛ الأول إنتاج وعي زائف نتيجة تدفق منظّم للمعلومات المضللة، والثاني تحويل النقاش العام إلى ساحة للتشويه والاتهامات بما يضعف الرقابة المجتمعية، أما المسار الثالث فهو ترسيخ الرقابة الذاتية من خلال الترهيب الرقمي الذي يمنع الأفراد من التعبير الحر.
وأكد أن هذه الممارسات "تحوّل الفضاء العام إلى منطقة مغلقة تُحدَّد فيها حدود النقاش الممكن، ما يعمّق هشاشة العملية الديمقراطية ويقوّض القدرة على إنتاج معرفة موضوعية".
وشرح أن "مواجهة هذا التأثير تتطلّب تعزيز الثقافة الرقمية النقدية، ودعم الإعلام المستقل، وضمان شفافية مصادر المعلومات لحماية المجال العام من التوجيه الخفي".
جهات تسعى لفرض لون واحد على المجتمع
من جانبه، عبر الأكاديمي والباحث في الشأن السياسي د. وائل منذر عن قلقه من وجود توجه داخل المجتمع يسعى إلى فرض أجندة ورؤية واحدة على جميع أفراده، بدعم من مدونين محسوبين على تيارات الإسلام السياسي ومرتبطين بها بشكل مباشر أو غير مباشر.
أسباب الاخفاق الحقيقية
وقال منذر لـ"طريق الشعب"، إن بعض هذه الحسابات الالكترونية تحاول “خلق جو عام يتهم أي فشل حكومي أو فساد مالي وإداري بانحلال قيمي أو تفكك أسري، في محاولة لصرف الأنظار عن أسباب الإخفاق الحقيقية، وفي مقدمتها تراجع دور الدولة في تنظيم المجتمع وإدارة الفضاء الالكتروني، وعدم الحد من خطابات الكراهية والتحريض والانقسام".
واضاف أن “الجيوش الالكترونية” لهذه الجهات تعمل بشكل ممنهج عبر التضخيم والترويج الواسع لأي حملة، مستدركاً بقوله ان "الأخطر هو انسياق السلطة التنفيذية نفسها خلف هذه التوجهات”.
ورأى أن أغلب المسؤولين في السلطة التنفيذية “ينتمون إلى أحزاب الاسلام السياسي، ما يجعلهم يتناغمون مع هذه الحملات، سواء بدافع الانتماء الحزبي أو بدافع الحفاظ على مناصبهم وتجنب الهجمات ضدهم”.
وحذر من أن هذا السلوك “يحوّل الدولة الى لون واحد، ويتعارض مع روح الدستور القائم على التعددية والاعتراف بالتنوع الاجتماعي”.
وزاد بالقول أن الدولة "تمنح إجازات قانونية لإقامة فعاليات وأنشطة مختلفة، لكن إلغاء هذه الإجازات تحت ضغط الحملات التحريضية يحمّلها مسؤولية تعويض المتضررين".
ونبه الى وجود ضعف واضح في ثقافة اللجوء للقضاء والمطالبة بالتعويض، رغم أنّ أي شركة أو جهة متضررة في دولة ديمقراطية كانت ستحصل على مبالغ كبيرة لقاء ما تكبدته من خسائر.
وأشار منذر إلى أن الرأي العام ينساق أيضاً خلف الحملات التحريضية، لأنه يُقاد من زاوية أخلاقية تقدّم رواية دينية واحدة بوصفها معياراً لعمل الدولة والمجتمع.
وتابع: “يجري الدمج بين مفهوم الدولة والدين من منظور ضيق لمذهب واحد، ما يجعل أي رأي مخالف وكأنه سباحة ضد التيار”.
وأوضح أن كثيراً من أصحاب الرأي المختلف يختارون الصمت أو الرد الدبلوماسي لتجنب الهجمات أو حملات التشويه، في حين تُستهدف شخصيات محددة بوسائل قانونية أو الكترونية، بينما يتم غضّ النظر عن آخرين “يمارسون خطاب الكراهية والدعوة لتقسيم البلاد دون أن تترتب عليهم أي نتائج قانونية”.
وفي ختام حديثه، شدّد الأكاديمي وائل منذر على أن معالجة هذه الظاهرة تتطلب مسارين "الاول معالجة مجتمعية، عبر اعتماد خطاب بديل واقعي وعلمي، لا يقوم على المواجهة المباشرة أو الشحن العاطفي، بل على نقاشات منهجية ترفع الوعي وتحصّن المجتمع من التحريض والتزييف، والثاني؛ معالجة مؤسساتية جذروها باعتراف الدولة بالتعددية واحترام كل الآراء والتيارات داخل المجتمع، و إصدار قانون فاعل لمواجهة خطابات الكراهية، و فصل مؤسسات الدولة عن انتماءات واعتقادات القائمين عليها، بحيث تعبّر عن الدولة العراقية لا عن أهواء أو مرجعيات حزبية أو دينية".
اين الرأي الاخر؟
الى ذلك، قال الكاتب أحمد سعداوي إن الأزمة الأساسية في العراق لا تتعلق بوجود فئات محافظة أو متشددة داخل المجتمع، فهذا أمر طبيعي في بلد متنوع، بل تكمن المشكلة في ضعف سلطة القانون وانحياز السلطة التنفيذية لصوت تلك الفئات على حساب الدستور والحقوق العامة.
وأضاف سعداوي أن "ما جرى في البصرة مثلاً، بعد إلغاء حفل قانوني تحت ضغط عدد محدود من الأصوات، يكشف أن الحكومة المحلية لم تحترم القانون رغم إدراكها أن الفعالية كانت مرخصة ولا تخالف أي تشريع".
وتابع حديثه لـ"طريق الشعب"، أن "من حق أي مجموعة الاعتراض والتعبير عن رأيها، لكن غير المقبول أن تقف السلطة الى جانبها وتتخذ قرارات تخالف الدستور وتعطي انطباعًا بأن الدولة تخضع لابتزاز مجموعات صغيرة".
وأشار إلى أن المشكلة "تتوسع بسبب استخدام المقدس الديني بطريقة فضفاضة تُستخدم كأداة للضغط والاتهام"، لافتاً إلى قضية "الناشط في كربلاء الذي احتُجز بسبب منشور اعتُبر مسيئاً للمقدسات".
وزاد ان هذا الاستخدام المفتوح للمقدس يخلق مساحة مبهمة تُستغل لتكميم الأفواه، متسائلًا: "أين يبدأ المقدس وأين ينتهي؟ ومن يملك حق تفسيره في ظل هيمنة القوى المتحكمة بالسلطة؟".
وأكد أن اساس الأزمة يكمن في المنظومة التنفيذية التي تخضع للاعتبارات الدينية والعشائرية والسلاح والنفوذ الحزبي. ومثال ذلك، هيئة الإعلام والاتصالات التي جرى تغيير إدارتها بطريقة تعكس أنها تدار كملكية حزبية لا كهيئة وطنية، في مشهد يجسد غياب القانون وتحوّل الدولة إلى كيانات خاضعة لنفوذ قوى سياسية تتعامل مع المؤسسات وكأنها أملاك خاصة.
واعتبر انسياق الجمهور وراء حملات التحريض "أمرا طبيعيا في ظل طبيعة وسائل التواصل القائمة على الترند والشعبوية، لكنه في الوقت نفسه نتيجة لغياب الرأي المقابل الذي يخشى التعبير خوفاً من الاستهداف والتشهير".
وقال إن هناك "رأياً آخر داخل المجتمع، وربما أكبر عدداً، لكنه مُحاصر بالخوف، الأمر الذي يجعل الصوت المتشدد يبدو كأنه الصوت الوحيد المسيطر".
وعاد للتأكيد ان "المشكلة ليست في وجود هذه المجموعات، بل في تمكينها ومنحها سلطة معنوية تسمح لها بالتأثير على قرارات الدولة".
وختم سعداوي بالقول إن أي دولة لا تقوم إلا على احترام القانون، وضرب مثالاً بالأردن الذي استطاع رغم قلة موارده أن يوفر بيئة آمنة للاستثمار لأنه يحترم القانون ويحافظ على استقرار مؤسساته، بينما يبقى العراق عرضة للفوضى لأن مصير أي قرار أو نشاط يظل مجهولًا طالما أن من يملك النفوذ يستطيع إسقاطه بضغط أو تهديد".