ما الذي يمكن أن يحمله مارك سافايا وهو يغرد من بعيد؟
لا أتوقع أن يختلف أثره الفعلي عمّا حققه بوش الابن لصالح طغمة الفساد، حين شنّ عدوانه على العراق بذريعة امتلاك أسلحة دمار شامل، أسلحة لم يكن لها وجود أصلاً، ولم يكن ذلك ليغيب عن أجهزة استخبارات تتجسس حتى على غرفة نوم صدام نفسه. ذلك المستبد الأرعن الذي أطلق ترسانته وأجهزة قمعه نحو شعبه، في الأهوار، وفي كردستان، وضد كل من تجرأ على امتلاك رأي يختلف عن رأي الدكتاتور وحزبه.
وحين انهارت الذريعة وتكشف زيفها، قيل إن الهدف هو "جلب الديمقراطية". ولكن أية ديمقراطية تحققت؟ إنها ديمقراطية المحاصصة، وتسليم مقاليد الحكم لطغمة رسخت الفساد في عمق مؤسسات الدولة، وإلغاء أي معنى لتداول السلطة، والاكتفاء بإعادة تدويرها داخل الدائرة ذاتها، عبر انتخابات مطعونٌ بنزاهتها تُمنح للطغمة كي تنتج شرعية زائفة، لا كي تفتح طريقاً لتحوّل سياسي حقيقي.
أما سافايا، الذي يلوّح بحصر السلاح بيد الدولة ومحاربة الميليشيات، فليس متوقعاً أن يخرج عن إطار الاحتواء: دمج الميليشيات داخل النظام، وتدوير المنظومة بوجوه جديدة. وقد رأينا كيف تعاملت واشنطن مع أحمد الشرع، وكيف خفت الصوت حين تغيرت الحسابات.
إلى جانب ذلك، بيّنت التجارب أن واشنطن لا تسعى إلى تفكيك البنى التي تكونت بموازاة الدولة، بل إلى احتوائها وإدارتها بما يخدم مصالحها. فالميليشيات التي يلوَّح بمحاصرتها، هي جزء من معادلة النفوذ التي أبقت نظام المحاصصة على قيد الحياة. وما دام ميزان الربح السياسي والاقتصادي مستقراً، فلن يكون هناك توجه لبناء دولة مؤسسات، بل مجرد إعادة ترتيب للملعب ذاته، مع بقاء اللاعبين كما هم.
فالحلول المطروحة لا تتعدى الهندسة الشكلية للنظام: إعادة توزيع للأدوار، وليس إعادة تأسيس للدولة. ولهذا يبقى السؤال مفتوحاً: هل نحن أمام إصلاح حقيقي، أم أمام محاولة جديدة لتلميع منظومة شاخت وهرمت، لكنها ما زالت قادرة على خدمة من يتقن الاستثمار في هشاشة العراق؟ هكذا يستمر المشهد، وعود تُقذف من وراء الحدود، وواقع يرسخ نفسه في الداخل، فيما تبقى إرادة العراقيين آخر ما يُستجاب له، وأول ما يُضحى به.
وفوق ذلك كله، تتصرف واشنطن حين تبعث بمندوب خارج الأطر الدبلوماسية، وكأنها تمنح نفسها حق التعامل مع العراق كبلد بلا سيادة. للأسف هذه هي الصورة التي يراها العالم، عراق أضعفته الدكتاتورية بالأمس، وأفرغته المحاصصة من مضمونه السيادي اليوم، حتى صار في الوعي الدولي دولة فاقدة الإرادة، منقوصة القدرة على اتخاذ القرار.
ويبدو أن الطغمة لم تكتفِ بقبول تعيين مندوب رئاسي أميركي، والتعامل معه مباشرة خارج القنوات الرسمية، بما يكشف هشاشة البنية السياسية ويفضح حجم التأثير الخارجي، بل أرسلت إشارات ناعمة للتقارب معه، ولوّحت بنموذج أحمد الشرع، لعل المشهد ذاته يتكرر.
وهكذا يبقى العراق، للأسف الشديد، بلداً يُنظر إليه باعتباره ساحة نفوذ، وليس دولة تمتلك قرارها.