تُعَدّ قضية التجديد من أبرز نقاط الاختلاف بين اليساريين منذ ثلاثة عقود، خاصةً حين تُذكى جمرة الحوار حولها في المنعطفات السياسية، إلى درجة يصعب معها التمييز بين المجدِّدين والمحافظين. وبعيدًا عن حقيقةٍ بديهية تشير إلى أن نجاح التجديد في الأحزاب اليسارية يعتمد بدرجة رئيسية على إشراك جميع المناضلين فيه وعدم اقتصاره على القيادات، وإطلاق حرية الاجتهاد وتجاوز المخاوف من ارتكاب خطيئة التحريف التي أوهمنا بها البعض سنين طوال، فإن للعملية اشتراطات تأتي في مقدمتها، حسب زعمي، النهوض بالمستوى الفكري والسياسي المتدنّي للأعضاء، وتبنّي آليات تنظيمية تجمع بين دمقرطة الحياة الداخلية وإحلال كادر قادر على التعامل مع معضلات اليوم محلّ مناضلين وَهَنَت همّتهم لأسباب متنوعة، إضافةً إلى فتح الأبواب لكلّ النقود والأفكار المفيدة التي قد يأتي بعضها من خارج باحة الدار الماركسية، وإتقان فنّ الإصغاء للمختلف والابتعاد عن تخوينه أو تكفيره، وتعزيز الحصانة ضدّ اليأس، الذي قد يُغري البعض بموائد دسمة عند الخصوم، أو يدفع بآخرين إلى العودة للتشبث بمقولات الحتمية التاريخية، حين يقفون عاجزين عن إيجاد بدائل لما شاخ من أفكار.
وللتجديد ميادين مترابطة رغم مسمياتها وتميّزها الوظيفي؛ فلم تُثبت التجربة نجاح محاولات تطوير أحدها بمعزل عن بقيّتها مجتمعة. ولعل من أهم الدلائل على ذلك تَلَكُّؤ الوضع التنظيمي حين لا يفلح النشاط الفكري في التفاعل مع أسئلة الحاضر، أو البقاء أسرى تغييرات شعاراتية حين يسود التردد في تطوير البناء التنظيمي خشيةَ التعارض بين الديمقراطية وبين وحدة الإرادة والعمل.
وإذا كان من أسباب النكوص اعتبارُ كلّ ما هو سائد من آليات العمل الحزبي تقليديًا وواجبَ التغيير، فإن من مُسرّعات هذا النكوص القيام ـ تحت ضغوط مختلفة ـ بخطوات تجديدية لا تتسق مع المستوى الثقافي المهيمن في المجتمع، ولا سيما إذا جاءت دون مقدمات تمهّد للتغيير وتجعله حاجةً موضوعية للمناضلين، أو دون تحصين الدار من مكائد العدو الطبقي والخصوم المنافسين. ولهذا يتطلّبُ الشروع بتلك الخطوات تشخيصًا علميًا دقيقًا للمتغيرات في البنية الاجتماعية وما تركته من تأثيرات إيجابية أو قاسية على وعي الناس، وإخضاع التطوير التنظيمي والفكري لاختبارات دورية تفضي إلى تطويره أو تعديل تفاصيله أو استبدالها، ضمانًا للمحافظة على زخم الكفاح.
وكي يتواصل التجديد ويحقق أهدافه لا بدّ أن يمتلك المناضلون القدرة والجرأة على ممارسة النقد، وأن تتطهّر أفئدتهم من عبادة الفرد، ومن رواسب البداوة والأنانية، ومن استغلال تلكؤ رفاقهم في تصفية حسابات شخصية، وأن تُغذّى الكوادر، وخاصة الشباب، بروح التضامن الشيوعي ويحصّنون ضدّ التكتل والشللية وضعف الانضباط.
وبغية أن ينطبق علينا وصفُ أنجلس للأممية الأولى (كانت تنظيمًا مفعمًا بالديمقراطية، بلجان منتخَبة يمكن استبدالها في أية لحظة)، يجب اعتماد الاختيار الجماعي والحرّ للقيادات، الذي يفضي لالتزام طوعي وواع بقراراتها واحترامٍ لشخوصها، نابعٍ من سماتهم النضالية دون الالتفات إلى مواقعهم الحزبية.
وأخيرًا، وبعد سنين طوال من صراع فكري لم تكن آلياته محكمة ولم يتخلص بعض أطرافه من أوهام تأبيد ما وجدوا عليه آباءهم، أثبتت التجربة أن وحدة الإرادة لا تعني بالضرورة تطابق الآراء، بل القدرة على حسن إدارتها لضمان وحدة العمل. كما كشفت عن ثقة أغلبية اليساريين بقدرتهم على مواصلة التجديد واعتماده منهجًا في مختلف ساحات العمل، بعد أن تيقّنوا بأن غيابه سيُبقي الخسارات مؤلمة.
ولهذا لابدّ أن يستمر الحوار حول كل ما أُنجز، ويجري تقييمه بجرأة، كي يتحقق التجديد المرتجى وتُصان ديمومته.