اخر الاخبار

العربي الجديد

على الرغم من مرور أكثر من 5 سنوات على انتهاء أكبر حركة احتجاجية في العراق، التي اندلعت في أكتوبر/تشرين الأول 2019، والتي استمرت أكثر من عام، ما زال عشرات الناشطين والمدونين العراقيين هاربين متخفين في إقليم كردستان وخارج العراق، بسبب ملاحقات قضائية أو من فصائل مسلحة، من دون تسوية حقيقية لوضعهم الاجتماعي وتأمين عودتهم، فيما لم تتمكن الأحزاب المدنية وأعضاء مجلس النواب الذين مثّلوا المحتجين تحت قبة البرلمان، من التوصل إلى حلول بشأنهم، في حالة تشبه النفي المزمن لهم.

وخلال الاحتجاجات العراقية التي سميّت بـ"تظاهرات تشرين"، اضطر عشرات النشطاء من الحراك المدني والصحافيين والمدنيين إلى مغادرة مدنهم سواء في العاصمة بغداد، أو محافظات الجنوب نحو إقليم كردستان شمالي البلاد، وتركيا والأردن، واختار آخرون الهجرة إلى بعض الدول الأوروبية، وبمرور السنين غابت قضيتهم عن التداول الإعلامي بين النشطاء الذين بقوا في العراق، ولم يعد أحد يذكرهم، على الرغم من حديث المنفيين في أكثر من مناسبة عن أوضاعهم الاقتصادية والنفسية الصعبة، لكن دون جدوى.

ومعظم الذين غادروا يواجهون تهم إثارة الفتن، وتعطيل العمل الحكومي، والتجاوز على ممتلكات الدولة خلال فترة الاحتجاجات، ورغم عدم وجود أدلة كافية على إدانتهم، إلا أن هذه الاتهامات حظيت بدعم عدد من المؤثرين في الأحزاب الدينية وبعض الفصائل المسلحة والشخصيات السياسية، ما جعلهم في تحدٍ كبير أمام سلطة القضاء في العراق بدعاوى يراها المتضررون منها أنها كيدية، وتهدف إلى طرد الأصوات الوطنية والمدنية من البلاد.

وآخر الدعاوى هي تلك التي واجهها أحد أبرز وجوه الاحتجاجات في مدينة الناصرية (مركز محافظة ذي قار في جنوب العراق)، الناشط حسين الغرابي، الذي أسس حزب "البيت الوطني" عقب انتهاء الاحتجاجات. وأصدر القضاء العراقي مذكرة قبض بحق الغرابي بتهمة المشاركة في حرق المباني الحكومية وتهديد نظام الحكم في البلاد، بالاستناد إلى أحكام المادة 197، والتي تصل عقوبتها إلى الإعدام، وعقب المذكرة، توجه الغرابي إلى محكمة الناصرية وسلّم نفسه، إلا أنه خرج بكفالة، لكن قضيته لا تزال مفتوحة.

وتواصل "العربي الجديد" مع مصادر متعددة من نشطاء الحراك المدني في العراق، الذين قالوا إن معظم الدعاوى القضائية ضد النشطاء والمشاركين في الاحتجاجات جاءت تحت مواد قانونية تتعلق بالتجاوز على ممتلكات الدولة أثناء فترة الاحتجاجات، بالإضافة إلى استهداف شرعية النظام، والمساس بهيبة الدولة، فضلاً عن تهم أخرى تتعلق بالحصول على التمويل من الخارج. وبيّن أحدهم، أن "الدعاوى القضائية قد تُواجه بالقضاء، لكن ما يخشاه النشطاء في المنافي، هو التهديدات بالقتل والتصفية والترويع من قبل جماعات مسلحة كانت قد تضررت من الاحتجاجات في البلاد".

وقال متظاهر سابق من محافظة ذي قار، إن "السياق الحكومي والقضائي في العراق كان عليه أن يتجه للبحث عن قتلة المتظاهرين، الذين يزيد عددهم عن 800 متظاهر، وليس التوجه إلى مواصلة نفي الناشطين وملاحقتهم قضائياً ومليشياوياً، وعلى سبيل المثال، كان لا بد من ملاحقة الجناة في حوادث إبادة حصلت مع المتظاهرين في الناصرية، مثل حادثة جسر الزيتون، وفي النجف حادثة ساحة الصدرين، وفي بغداد حادثة جسر السنك"، مؤكداً لـ"العربي الجديد"، أن "معظم حالات القتل ضد الناشطين والمتظاهرين في العراق مصوّرة، وتضم شهادات كافية لإدانة الجماعات المسلحة، لكن الواقع المفروض على العراق يفرض حالة التماهي مع القتلة وملاحقة الشباب الذين كانوا يطالبون بحقوقهم".

وتواصل "العربي الجديد" مع ناشط ومتظاهر من العاصمة بغداد، يستقر حالياً في مدينة أربيل، بإقليم كردستان، تلاحقه نحو 13 دعوى قضائية ترتبط جميعها باحتجاجات "تشرين"، وقال إن "الملاحقات القضائية متواصلة، وإنه تلقى أكثر من 13 تبليغاً قضائياً بتهم ترتبط بمواد قانونية تصل بعض عقوباتها إلى الإعدام، فهل هذا منطقي!"، مستكملاً حديثه بأن "المتظاهرين والنشطاء لم يطالبوا بإسقاط النظام، بل بالإصلاح ومحاسبة الفاسدين ومنع حالات سرقة المال العام، وإشراك الأحزاب المدنية والوطنية في العمل السياسي من أجل الوصول إلى حالة سياسية وديمقراطية تشمل الجميع".

وفي تعليقه على الأمر، اعتبر عضو الحزب الشيوعي العراقي أيهم رشاد، أن "التهديدات والملاحقات ضد ناشطي العراق في الداخل والخارج، تهدف إلى إسكات الأصوات المدنية التي عادة ما تفضح الفساد في البلاد، ورغم اعتراف كل المنظمات المحلية والدولية والأممية بأن الصوت المدني مهدد في العراق، إلا أن زعماء الأحزاب يتحدثون عبر الإعلام عن وجود فضاء للحرية والتعبير في العراق، وهذا يخالف الحقيقة"، موضحاً لـ"العربي الجديد"، أن "الملاحقات لا تشمل المشاركة في احتجاجات تشرين فقط، بل إن بعضها يعود إلى ما بعد انتهاء الاحتجاجات بتهم كيدية، تتعلق بالإساءة لمؤسسات الدولة عبر الظهور الإعلامي".

وأكمل رشاد أن "معظم الناشطين والمتظاهرين والمدونين في داخل وخارج العراق يؤمنون بالقضاء، بل إنهم يدعمون دولة عراقية تسودها عدالة القانون، لكنهم يخشون من الملاحقات المليشياوية للجماعات التي تريد أن تثأر لقادتهم الذين تضررت مصالحهم بسبب الاحتجاجات والصوت العالي للمحتجين"، معتبراً أن "الحالة الديمقراطية تتراجع في العراق بسبب الممارسات الحزبية والمليشياوية، وللأسف فإن حكومة محمد شياع السوداني لم تنجح في تسوية ملفات المحتجين باعتبارهم عراقيين يبحثون عن وطن ومستقبل أفضل للجميع، وكان عليها أن تنهي هذا الملف، وأن تمنح المدنيين فرصة أكبر في المشاركة على المستوى السياسي وصناعة القرار".

أما المحامية وأستاذة القانون في كلية دجلة الجامعة ببغداد، نوال فجه، فلفتت إلى أن "نشطاء المجتمع المدني من المهددين والملاحقين يقسمون إلى قسمين، الأول الذين شاركوا في احتجاجات "تشرين" ولم يتصدوا بعد انتهاء الاحتجاجات للملفات السياسية، هؤلاء يمكنهم العودة وحل قضاياهم القضائية ولا مخاوف عليهم، والقسم الثاني الذين استمروا بأسلوب المعارضة السياسية والانتقاد ضد ممارسات السلطة وإدارتها، وهؤلاء يتعرضون للتهديدات والملاحقات، لأن الأحزاب تعتبرهم أدوات تخلق الرأي العام السلبي ضد الجهات الماسكة للسلطة".

وأوضحت فجه، في حديثها مع "العربي الجديد"، أن "الضغط الكبير على هؤلاء الشباب والملاحقات بأشكالها كافة، جعلت بعضهم لا يرغب بالعودة إلى بغداد أو مدنهم الأصلية، بسبب التخوف من الاستخدام التعسفي للسلطة، مع العلم أننا طالبنا بأن تكون هناك مبادرات من مجلس القضاء الأعلى لإنصافهم، ومنع التعسف، والمساهمة في إدماجهم، وعدم المبالغة في اتخاذ الإجراءات ضدهم بسبب استخدامهم لحقهم في التعبير عن آرائهم المناهضة للحكومة أو السلطات".

وكانت التظاهرات العراقية قد اندلعت في الأول من أكتوبر 2019، عقب دعوات انطلقت عبر مواقع التواصل الاجتماعي إثر تردي الخدمات وتفاقم نسبة البطالة، قبل أن تتفجر بشكل واسع في بغداد ومدن جنوب ووسط العراق. وأدت أعمال قمع التظاهرات إلى مقتل نحو 800 متظاهر، وإصابة أكثر من 27 ألفاً، في وقت لم تُحاسَب فيه أي جهة متورطة بهذه الأعمال.