تعكز نص مسرحية (سباق الخبز) على مدونة (برشت.. القاعدة والاستثناء) بشخصياتها الحاملة لمنظومتها الواقعية لا الظلية على وفق منطقها الفكري واشتراطاتها اليومية والوجودية وهويتها الكينونية؛ فشخصيات "سباق الخبز" آدمية إنسانية حية واقعة بالقوة وبالفعل بإيجابياتها وسلبياتها وأشكالها وهيئاتها والتي بإمكانها الانشطار والتعدد والتشظي لتقترب أو اقتربت بالفعل والقوة الى حواف مجتمع وشعب بأكمله بإرهاصاته وصراعاته الوجودية؛ على الأقل ذلك الصراع والسباق بغية الحصول على المكانة العليا والقوة والنفوذ، واكتفاء بعضها على كسرة خبز والقناعة بذلك لمواصلة الحياة والوجود في خضم ذلك السباق المخيف والمرعب الذي يتطلب آليات وكيفيات خاصة للاستمرار والظفر ونيل تلك الأهداف المشروعة وغير المشروعة المعلنة وغير المعلنة الضرورية وغير الضرورية على وفق نوع من إرادة القوة التي طالب بها (نيتشه) أو إرادة الحياة التي قال فيها (شوبنهاور) والتي لا تشبع مراداتها فهي في ميول ورغبات لانهائية أو وفقًا لإرادة الأخلاق الكانطية. هذا المآل يؤسس كاتب النص (ماجد درندش) مدونته النصية لقاعدة (برشت) واستثناءه شخصيات: التاجر والدليل والأجير، إلا أن (درندش) ألبسها لبوسًا آخر وزجها في سباق من نوع آخر؛ سباق محموم وجسيم لكسب ذلك الرهان الوجودي المتمثل بـ(الخبز) دالًا ذو محمولات دالة للحياة والوجود والبقاء والاستمرار. سباق تعدى ويتعدى بل تجاوز ويتجاوز كل النواميس الإنسانية وسحقها بغية الفوز، مهما كانت الوسائل والأليات ومهما كانت الخسائر والتضحيات سبيلًا لتحقيق تلك الغايات؛ ومن هنا يجذر المؤلف والمخرج (درندش- حنون) كيف للفعل المتشح خيرًا وصوابًا والمعتمل والملتصق بضرورات الحياة وأخلاقيتها أن يصبح استثناءً إزاء تلك القاعدة التي رصفت مدعياتها بالعادات والتقاليد والنواميس والأخلاق؛ من هنا تم تأسيس الفارق الطبقي وصراع المصالح والمتجذر في عقلية الشخصيات وأخلاقياتها المأزومة والمرتهنة وصولًا لأهدافها المرسومة المعلنة والمضمرة؛ صراع طبقي بين الطبقة المعدمة الفقيرة الساعية والمكتفية بكسرة خبز والمتحصل عليها بجهد وعرق وشرف إزاء الطبقة الغنية المستغِلة والمتزمتة والقاسية والصلدة والوصولية والنزقة وصولًا لهدفها وأبراجها العاجية دون كد وتعب؛ لترتهن كرامة الطبقة العاملة لتقبع تحت مظلة البؤس والعوز والفاقة والشقاء وفقدان الهوية والوجود. فالظرف السببي بأزماته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأخلاقية والطرس اليومي الضاغط قد تواصلا واعتملا والتصقا في خطاب العرض مع مدونة (برشت) وإن اختلفت الرؤية وتنوعت المسببات والمناخات الجوهرية لتأثيث ذلك السباق المحموم بين الطبقات وتباين المصالح؛ فشخصية التاجر عند (برشت) قد تناسلت وتناسخت وتوالدت وانشطرت بصور وهيآت متعددة وبوجوه مختلفة ومواقف متنوعة في عرض (سباق الخبز). وشخصية الدليل عند (برشت) حمل مسميات أخرى في العرض مع بقاء شخصية (الأجير) حاملًا سمته الفكرية والأيديولوجية والجمالية عند (برشت) و(درندش)؛ بوصفه القاعدة والذي يداس بحوافر تلك الأحصنة الراكضة في السباق المحموم مع بعض الإزاحة لهذه الشخصية في العرض من وصف تلك الانتقالات الصائرة في مواقف الشخصيات وتبدلها من حال لآخر. فالجو العام لكلا النصين حاضر في تأسيس رؤية نقدية وتعليمية للسلوكيات السلبية ورفضها والتنبيه منها وجعلها تحت مجهر النقد والاتهام؛ واذا كان (برشت) ناقدًا للرأسمالية والفاشية بكل عناوينها ومسمياتها وأنواعها وصورها وأشكالها واضعًا الاشتراكية بديلًا ناجعًا لها؛ ان خطاب العرض هنا ينتقد ويؤشر ويرفض ذلك الخلل ويفصح عن ذلك التباين الطبقي وصراع المصالح الشخصية الطبقية والذي فاح وتفشى في مفاصل مختلفة من الحياة، الأمر الذي نخر المنظومة القيمية والأخلاقية في ظل سباق محموم وطائش سحق بدوره الطبقة الفقيرة الكادحة بغية التربع في تلك العروش الخاوية.
يطالعنا المخرج بدءًا بدليل العرض (البروكرام) الذي حمل شعريته المتعددة والمنفتح قراءةً وتأويلًا ليشيح عن تلك الأرجل التي هي من آليات السباق وكيفياته لنيل الخبز (الغاية والهدف المرجى) والتي تكون في الأعلى نظيفة وجميلة ومرتدية (الحذاء) دلالةً وترميزًا للطبقة العليا المتنفذة والمستغِلة لتلك الارجل الحافية في الاسفل دلالةً وترميزًا للطبقة الدنيا والمستغَلة؛ وربما قد تكون هذه الهيأة دلالةً وتأويلًا لذلك التدوير الحياتي؛ جوع بعد شبع. وشبع بعد جوع؛ لاسيما ظهور شخصيات العرض وهي حافية دلالةً وتأويلًا لماضيها الهرم الشائخ. بذلك تخطى المخرج من وصف الدليل وصفه مطوية إشهارية أو إعلانية أو دعائية أو ترويجية ليدخل من خلاله أتونه كعلامة دالة ومنتجة، لها محمولاتها وتنوعاتها ومستوياتها ومبثوثاتها الجمالية إزاء التلقي كعتبة قائمة بالفعل وبائنة بالقوة وما ترشح ويترشح منها من قراءات وإشارات ودلالات عابرة ومتعابرة مع المتلقي.
عرض (سباق الخبز) لعبة بوكر لعبة مؤدلجة لمصائر شخصيات ومجتمع وشعوب بكل ما تحمله من مقومات الوجود والهوية لترتهن بكليتها بوريقات مقلوبة، إن حزت أعلاها تكسب نصرًا وإن حزت أقلها تخسر حياة وإن حزت أوسطها تنهي اللعبة بهدنة؛ وسباق (حنون) لا هدنة ولا سلام فيه؛ إما أن تكون في الأمام كحيوان راكض تسحب معك عربة السباق ساحقًا وجودك وهويتك أو تكون ماسكًا بتلابيب ذلك اللجام مراقبًا ومسيطرًا لدفة السباق. فالسباق سباق الوجود والعدم؛ سباق المكانة والقرار. يناور المخرج في حال شخصياته ومصيرها فيبادلها الأدوار والمكانات والمواقف. ليحيل طاولة البوكر كحالة غير ثابتة أو مستقرة، فهي متحولة وغير راكزة كشخصياته، وبدورانها تدار المواقف والحالات وتنتقل الشخصيات من حال لآخر، فيصير المستغِل مستغَلًا والمستغَل مستغِلًا، والمترأس مرؤوسًا، والغني فقيرًا، والفقير غنيًا. وهو تصوير حاذق لتبدل الظروف والمكانات، فمن كان في الأمام بات في المؤخرة ومن كان في المؤخرة بات في الأمام؛ هكذا تدار اللعبة وهكذا هو سباق المخرج؛ فالبقاء للأقوى مهما كانت وسائله ومعداته للوصول إلى رغباته وأهدافه المشروعة منها وغير المشروعة. من المنطلق القائل(إذا ما أردت الانتصار عليك أن تلعب على غير الأرضية التي يلعب بها الخصم وأن تلعب خارج قاعدته؛ هو الاستثناء الذي تبتكره أنت). لذلك ألبس المخرج شخصياته زيًا مشابهًا حافيةً دلالةً وترميزًا لمرجعيات شخصياته البائنة سلبًا والشائخة موقفًا، بوصفها استغلت ظرفًا طارئًا واصبحت ما هو عليه من دلالة ووجود وهوية.
قدم عرض (سباق الخبز) خطابًا جماليًا مفعمًا بالسمت اليومي وارهاصاته وأفعاله الذي طال على مواقف شخصياته؛ فهو يجاور تعليمية (برشت) من وصف (فعل الخير) بات استثناءً من تلك القاعدة بنواميسها وأخلاقياتها، وهو كما في قول (برشت): (عليكم أن تجدوا السوء في القاعدة نفسها وحيثما تجدون هذه القاعدة عليكم أن تعثروا على الترياق). وترياق (حنون) في وضع بصمته على تلك المنخورات التي طالت المنظومة الاجتماعية والأخلاقية في ظل مناخات قامعة وظروف استثنائية جعلت من قاعدته مطية بيد الاستثناء وهي ملجومة برباط محكم وطوق لا يمكن الحياد عنه والفكاك منه. وباتت الإنسانية والعدالة عبث في قاموس المثالية؛ والعدل على وفق هذا المقياس بات عقيمًا وبعيد المنال.
تأسس عرض مسرحية (سباق الخبز) على جدلية مفهوم العدالة وما يحيطها من انثيالات قد تبدو غير عابرة لمفهوم الإنسانية وموقف الإنسان من الحياة والوجود، وما يتأسس من ذلك جحود الطبقات المستغِلة قبالة الطبقات المستغَلة واستمرارية هذا الاستغلال بكل أنواعه، ليركن تلك الطبقة في شقاء وبؤس وسباق دائم للهاث نحو حالة البقاء في ظل سباق محموم ومغلف بالمخاطر مع غياب تلك العدالة التي اتخذت جانبًا أحاديًا، لترهن بيد من يملك السلطة والمال والنفوذ، فالعدل والعدالة انزاحت طبقيًا على وفق ما تميله المصالح وصراع الطبقات. لذلك بصم العرض في فضح وتعرية تلك السلوكيات الفاسدة والقادمة من خارج دائرة الأخلاق والنواميس والعارية ماديًا ومعنويًا من تلك المنظومة المجتمعية الحاملة لبعدها القيمي والاجتماعي، بوصفها سلوكيات هجينة وعابرة ومستوردة تسرطنت في سلوكيات شخصياتها وفاحت رائحتها وتشربت في عقلية حاملها لتهيمن وتسيطر على كل ما يمكن نيله من خيرات وثروات مادية وطبيعية، فالصراع المادي والطبقي أخذ مدياته متوسعًا ليشمل كل ما يمكن نيله والحصول عليه، وبات كل شيء مهدد بالضياع والسرقة وصولًا لسرقة الوجود وامتهان كرامة الآخر بعد التمكن منه، لترتهن إنسانيته وهويته ووجوده ليكون مادة صائرة إلى الزوال.
قدم العرض صورة بصرية احتجاجية محملة بتلك الاسقاطات السياسية والاجتماعية والاخلاقية والوجودية، ليكشف من وراءها تلك الوجوه التي تقنعت والتفحت بستار القوة والمال والنفوذ والمكانة وفضح تلك السلوكيات المريضة والهشة بواقعية مكشوفة على الرغم من حملها تلك الرمزية التي بالإمكان أحالتها لمضانها ومقصديتها. فالطائرة التي أتت بالشخصيات و(هوز) الماء وأوراق لعب القمار وكراسي السباق و(طشت) الغسيل واللجام وأعمدة الضوء الثلاثة لها ارتهاناها ودلالاتها المفضوحة والتي شكلت وتشكل ذلك السباق للسيطرة والقوة والنفوذ. وكشفت وفضحت ذلك المضمر والمسكوت عنه ليتصير مكان مضمار السباق إحالة ودلالة للوطن الذي بات مهددًا بالرهان والاستباحة ومحطة للسباق والصراع، الصراع الإنساني والوجودي وهمًا وحقيقةً قبالة تلك التحديات السياسية والاقتصادية والأخلاقية والقيمية، حتى بات القبول المفروض عنوةً على كل ما تنزه تلك التحديات من مواقف وقرارات من هم في دائرة الخصم، لهشاشة الموقف ونخر المنظومة القيمية وارتهان الإنسان المعدم الفقير في رجولته وكرامته وتقويضها وسحقها، ليتصير دمية راقصة مرتبطة بخيوط تحركها أيادي خفية وفق أوامر عليا، تحركها كيف تشاء ومتى تشاء، لتكون مادة للهو والعبث ومن ثم المحو والشطب.
حملت المنظومة الأدائية لعرض مسرحية (سباق الخبز) محمولاتها البريختية وفقًا لأطروحات العرض الذي تأثث على نوع من الواقعية الجديدة، لاحتواء تلك التناقضات السياسية والاجتماعية والأخلاقية، لإحلال فكر وفلسفة مقابلة لها. كمحاولة جادة لتغيير الإنسان والعالم وعدم الإبقاء على تفسيره، وفي محاولة جادة أخرى لمزاوجة الشكل والمضمون والمبنى والمعنى للوصول الى ذلك التكامل الفكري مع منظومة بصرية وصورية حاملة لأبعادها الجمالية والفنية. ولمنظومة العرض التعليمية؛ تمظهر الأداء في الجانب التقديمي (السردي) الذي ابتعد بدرجة ما عن المحاكاة والاندماج قدر ما كمنت فيه مهمة الممثل هنا عرض الشخصية وتقديمها أكثر من مهمة تمثيلها، فهو يقدم نماذج وشرائح مجتمعية لا شخصيات بعينها، لذلك كان لألوية الجانب العقلي على حساب الجانب العاطفي ظاهرًا وملموسًا، ومن هنا تسيد الجانب السردي في ملفوظات الممثل، فضلًا عن ذلك التكرار اللفظي والحواري والتكرار في إنشاء الصورة المشهدية والانتقال والقطع والازدواج والتعليق وتبادل الأدوار حسب ما تقتضيه بنية الحدث ودفة الصراع. وهذا التبادل أخذ مقصديته الفكرية من وصف كون الحال لا يدوم والمواقف والمكانات غير ثابتة وتغيرها سهل المنال.
تأثثت سينوغرافيا العرض في بنية فنية وجمالية خدمت فلسفة العرض بدءًا من سلم الطائرة إلى الطاولة المتحركة دائريًا كمصائر الشخصيات، والتي أخذت مدياتها الدوالية والتدللية حسب ما يقتضيه الموقف، فبات السلم منصة قضاء وسلم للعبور للجانب الآخر، وباتت الطاولة منصة يحاك ويخطط عليها المؤامرات وكانطلاق لسباق الهيمنة والنفوذ. فكل شيء على خشبة المسرح مرن سائل يمكن تطويعه على وفق مسار الحدث. وباتت الأزياء (بدلات فاخرة مع الأربطة دون حذاء)) كلُ مكمل لإرهاصات الشخصيات ومرامها ومرجعياتها الفاقدة لها، بوصفها شخصيات حديثة العهد بالنعمة. وجاءت الإضاءة لا مفسرة وملاحقة للحدث، بل أفصحت عن تلك التقاطعات الضدية التي حملتها الشخصيات في ظل سباق محموم لأجل الوجود، فهناك مساقط ضوئية دلت وكشفت مرام الشخصيات وأهدافها وارادات موقفها الراهن، فتارة ترهن الإضاءة وتفرد شخصية بعينها وهي تسبح في عالمها وموقفها ومكانتها وتارة أخرى يجمعها في بودقة واحدة لتكون دلالة أخرى مضافة لتلك الصورة الاحتجاجية وتكملها.
مسرحية "سباق الخبز" تأليف: ماجد درندش.. اخراج : ابراهيم حنون، تمثيل: حسن هادي ومازن محمد مصطفى وماجد درندش. بغداد/ مسرح الرشيد 2025.