تعد نظرية السياق من النظريات المهمّة التي تهتمّ بالمعنى عن طريق اللغة ونوعيتها، وقد أصبحت النظرية من النظريات المضافة إلى نظريات أخرى لدراسة المعنى، مثلا؛ النظرية الإشارية والتي كانت على يد (أوجدن وريتشاردز)، والنظرية التصويريّة والتي تعود إلى الانكليزي (جون لوك)، والنظريّة السلوكيّة والتي تعود إلى (بلوميلد). وهناك العديد من النظريات والتي تشكّل امتدادات لغويّة مع بعضها. من خلال المنظور القصدي، نلاحظ أنّ المفاهيم التي نقصدها تكون ضمنية في المنظور السياقي، أي أنّ الكلمة وتوظيفها تفقد المعنى المباشر، وتنتمي إلى معنى السياق، وهناك بعض الكلمات التي تمتاز بالقوّة (الكلمة الذكيّة) لا تفقد المعنى، وذلك لأهمّية المعنى الذي تحمله الكلمة، ويكون السياق موازياً لهذه الكلمة، ولكن عبر التأويل من الممكن أن تفقد ولو جزء من معناها، فهي أخيراً تابعة لمعنى السياق.
(إنّ النقطة الرئيسيّة هنا هي أهمّية السياق الذي يقال فيه الكلام، إنّنا لا نقول الكلام في فراغ بل نقوله في سياق هو في جزء منه لغوي "الأشياء التي قيلت مسبقاً"، وفي جزء آخر غير لغوي "ظروف المتحدثين مثل معرفتهم للعالم من حولهم وخبراتهم وتوقعاتهم"، وإنّنا نحقق الاستفادة من كلّ ما ذكر عندما نفسّر ما يقوله الناس. ر. ل. تراسك – اللغة والسياق من كتاب: أساسيات اللغة – ترجمة: رانيا ابراهيم يوسف – المشروع القومي للترجمة، بإشراف جابر عصفور، مصر، القاهرة - ص 77، 78).
ليس الكلام القصدي اللغوي في النصّ، من الأحداث العاديّة، لذلك نبتعد عن أيّة لغة غير تجانسيّة وخارج الارتباط النصّي، فالكلام الذي يقصده أيّ امرئ، موجود، ولكن الكلام الفنّي هو سرّ البحث عنه، وهو الذي يقودنا إلى فنّية النصّ (النصّية)، وسبل التعامل مع المعنى الداخلي له، أمّا المعنى الخارجي، فالعلاقة المتواجدة، تربطه لغويّاً مع المعنيين، الداخلي والخارجي.
ونستطيع أن نتوقف قليلاً عند بعض النقاط الارتباطية وتعدّدها في المجال النصّي:
المساحة الكلامية: وهي خصوصيّة الكلام النصّي، وما يتبعها من ظروف كلاميّة.
القول القصدي: إنّ القول القصدي ذو علاقة مع المساحة النصّية، بل ويشكّل جزءاً منها، وخصوصاً إذا أدرجنا أفعال الكلام، حيث أنّ المفاهيم المزروعة ومنها المفاهيم المضمرة، تكوّن شبكة من المعاني والتأويلات المرتبطة بقصدية الباث، لذلك تكون الزيادة المعرفيّة لدى المتلقي، زيادة في فهم المواضع القصديّة في النصّ والنصّية، حيث أنّ البنية اللغوية تصبح مبادئ تداوليّة وأمّا علاقتها فهي مع أفعال الكلام.
التواصل اللغوي: من الممكن التحوّل من الاتصال إلى الخطاب، تاركين خلفنا اللغة العادية التي من مكوّناتها العامل اليومي والاتصالات الواسعة، لذلك يعدّ الفعل اللغوي، من الأفعال التأثيريّة في النصّية أوّلا، وفي الكتابة ثانياً، ويكون للفعل اللغوي تأثيراته الخارجيّة ومنها على المتلقي في وجه الخصوص.
التفاعل السياقي: عند الدخول إلى النصّ من خلال استنطاقه سنصل إلى تلك التفاعلات السياقية النصّية، وأهمّها تفاعل اللغة والمعنى، حيث أنّ العلاقة بينهما، علاقة اشتغال السياق الوارد فيه. إنّ السياق عنصر من العناصر الحركيّة وعلى ارتباط تام بما بين الذات التي تعلن حقيقتها في اللغة وبين المعنى، وذلك لتحقيق التفاعل بين الباث والنصّ، وبين الباث والمتلقي، وتكون الإرساليّة عبر مؤسّسة قناتية تخصّ الباث تماماً. (إنّ المجالات التي يفرضها السياق عديدة وتتوزّع عبر فضاءات معرفيّة كثيرة؛ منها ما هو مرتبط بالمتكلّم والمتلقي وشروط الإنتاج اللغوي والزمان والمكان... وغيرها. - علي أيت أوشان - السياق والنصّ الشعري من البنية إلى القراءة - مطبعة النّجاح الجديدة - ط1 لسنة 2000م، الدار البيضاء، المغرب، - ص 16، 17).
المعنى السياقي
إنّ النصّ في تكويناته وعناصره يعد ذا توجيه دلاليّ، والدلالة المعنية، هي دلالة المعنى، ولأنّه عبارة عن وحدات لغوية، فلدينا الموضوع العلوي للنصّ؛ فتكون الانطلاقة من العنوان، باعتباره موضوع النصّ، وكذلك الانطلاقة من النصّ ونفترضه موضوعاً للنصّ؛ ومن الطبيعي هناك وجود المؤشرات النصّية، والتي تشكّل جمعها عناصر متآخية للنصّ، ومنها: (العنوان، بداية النصّ، موضوع النصّ والمصدر). هذه العناصر من الممكن أن نعدها فرضية لقراءة النصّ. (بينما تشتقّ وحدة النصوص في النماذج القواعديّة دائماً من إشارات معيّنة في البناء السطحي، يضع لغويون آخرون أبنية القاعدة الدلاليّة في مركز دراساتهم. ويوردون حجّتهم في مثل هذا الإجراء، بأنّه في البناء السطحي تنعكس دائماً أجزاء فقط من معنى النصّ، وليس كلّ المعلومات الدلاليّة، ما يعني أنّ وحدة أيّ نصّ لا يمكن أن توجد بشكل كاف إلا بمراعاة بناء القاعدة الدلاليّة أيضاً. - فولفجانج هاينه و ديتر فيهفيجر - إسهامات الوصف النصّي ذات التوجه الدلالي، من كتاب: مدخل إلى علم اللغة النصّي – ترجمة: د. فالح بن شبيب العجمي – مطابع جامعة الملك سعود، السعوديّة - ص 37).
لكي نضع بعض المهام في نصابها في المعنى السياقي، من الممكن التعامل مع المفردات كلّ على حدة، أي الرجوع إلى معناها الأعجمي، وهو الخاصية التي تسعفنا في توجيه المعنى، وتوظيف المفردة في سياق المعنى، والتوجه الآخر التعامل معها بالصيغة التركيبيّة، وذلك لتأسيس السياق والميول في معنيهما، ولكن يتبع الصيغة التركيبيّة ممهمتان، الأولى؛ تحديد المعنى الوظيفي، والذي لا يتمّ إلا عن طريق العلاقات السياقيّة في النصّ، حيث يشكّل الامتداد السياقي مفاهيم نصّية وقرائن تتعلق بالمفردات ومعناها، والتوجيه الآخر؛ المعنى الدلالي للسياق، فلا يمكننا التخلي عن الدلالة السياقيّة، من ناحيتي؛ الدلالة اللغويّة، ودلالة المعنى، ويكون أثر الأفعال وتعلقها السياقي، حجّتان لغويّتان لاستمرار المعنى، وذلك لتعلق اللغة الحِجاجية بالسياق التواصلي.
عند توظيف المفردة في السياق، يتمّ الاعتماد على معنى واحد، وتكون المفردة هي المركزية الدالة على السياق، ولكن يكون تغيير محتواها حسب نوعيّة ولغة السياق؛ فمثلا مفردة البندقيّة، فهي الشيء الذي من خلاله يمكن الاصطياد، هذا إذا كانت بندقية صيد، وعند توظيفها بصيغة مختلفة، كأن نقول (بندقية عجوز)، أي لا فائدة منها، أو (بندقيّة خلاقة) أي من الممكن الاعتماد عليها. إن المفردتين تبدوان بسيطتين، ولكن عند التركيب يختلف المعنى، بل ويصبح قرينة بمحتوى ومعنى مختلف.