من الصعب وضع المفاهيم في انساق جامدة، وتحويل مرجعياتها الفلسفية الى معايير وقياسات كثيرا ما تقتل النصوص، أو تحبسها في التاريخ، وهذا ما يجعل الكشف عن تناقضات الاحكام النقدية عشوائيا، وموضوعا شائكا، ومعقدا، وباعثا على أسئلة أكثر غموضا..
ثمة من يجد في هذه المغامرة تحريكا لواقع نقدي جامد، وثمة من يراها نوعا من التهويم النقدي، وربما المعرفي، لأن التعاطي مع المفاهيم لن يكون أمرا سهلا، وأن الهروب اليها سيتجاوز خيار تلك المغامرة، ويثير الأسئلة حول مساحة اشتغالها الثقافي والفلسفي، ومنح الناقد القدرة على تقويض مركزية المفهوم والمصطلح، ومنح الأفكار طاقة للتجاوز، ولأن تكون في حالة من الاستنفار الدائم، وبما يجعل وظائفها متشعبة، ومتعددة الاستعمالات، على مستوى المساءلة والتجديد، أو على مستوى أدائها في كشف فاعليتها في صياغة الأسئلة، وفي تقويض قيود "التاريخ" والسلطة، وتعميق رهاناتها المعرفية في التجريب، وفي الدرس النظري، وعلى نحوٍ يجعل من الخطاب النقدي اكثر حيوية في تمثيل تلك الأفكار، من خلال السعة في بيانات الحراك النقدي، وفي دراسات المنهج والنظرية، وباتجاه دعمها لتبني سياسات ثقافية، وحركات ثقافية تساعد على تشغيل تلك المفاهيم، عن طريق تجديد الأنساق ذاتها.
التصادم ما بين السياسة والثقافة ليس بعيدا عن التصادم المفاهيمي، وعن علاقة هذا التصادم بالأسئلة التي تخص علاقتها بأعمال مؤسسات السياسة ومؤسسات الثقافة، فما تصنعه مؤسسات "الرأسمالية" وقناعها الليبرالي الجديد يعمد الى تفريغ المفاهيم من روحها النقدية، ومن انسانيتها، لا سيما ما يتعلق بمفاهيم الحداثة، وما بعد الحداثة، والحرية والحق والديمقراطية والفردانية، إذ باتت هذه المفاهيم مكشوفة للنصب والاحتيال الرأسمالي، ولوظائفية متعسفة تعمل على اعادة انتاج مركزيات القوة والرقابة والسيطرة، وأحسب أن ما يحدث في "الغرب الديمقراطي" من بشاعة ومن تغويل في الرسملة الطبقية، وفي تضخم أنماط الاستهلاك، وشيوع مظاهر " الفاشية الخوارزمية" كما سمّاه ماركوس، ومظاهر الانحدار الأخلاقي، فضح أنماط السياسات المهيمنة، وجعل من مؤسسات الثقافة غير فاعلة في أدائها النقدي، وفي الكشف عن عبثية المفاهيم وشعبويتها، واستعمالها في الترويج لخطاب ثقافي متعال، وغامر بأطروحات ملتبسة عنها، حتى بدت هذه الشعبوية اكثر اثارة للجدل والاختلاف، لا سيما وأنها جزء من السلطة والايديولوجيا، ومن اوهامها حول الغرب التاريخي والغرب الثقافي، وحتى الغرب المسيحي، والتي تحول وجودها في الخطاب السياسي، وفي تمثيل الصعود الشعبوي لليمين المتطرف، ولمظاهر التعمية التي تنامى معها الشعور بفقدان الثقة بالرهانات الثقافية، وبقدرة الثقافي على مواجهة خيارات العنف والكراهية والعنصرية، والى ما تكرسه من "دوستوبيات" معادية، على مستوى العلاقة مع الأمكنة وتمثيلها الاجتماعي والثقافي، أو على مستوى تمثيل الهويات التي تبحث عن وجودها في عالم لا يمكنه أن يصنع "اليوتوبيا"
ما يحدث في الغرب بات يحدث عندنا، حتى بات التناقض بين السياسي والثقافي مفضوحا، لا سيما في تداولية واستعمال المفاهيم، فالحرية لها قناع، والديمقراطية لها اقنعة، والعدالة لها توريات، والهويات عرضة للتمركز والسحق تحت تأويل القناع وليس الأصل. وهذا ما اعطى التوصيف الثقافي ابعادا كبيرة، تخص المفاهيم وتعقيداتها متعسرا وصعبا، لأنه يتعرّض الى تشويش مفاهيمي من جانب، والى إعادة صياغة وتموضع من جانب آخر، لا سيما وأن الفلسفة بوصفها صانعة المفاهيم كما يقول دولوز، تعيش مأزقها الوجودي، وأزمة تمثيلها الثقافي، وأن نزعتها الشكوكية تجعلها مطرودة من الحواضن النسقية لسلطة السياسي والايديولوجي والتاريخي والطائفي والقومي..
تمثيل المفاهيم نقديا ليس يسيرا، وليس عالقا في فراغ، بقدر ما هو مجال مفتوح على مقاربات ثقافية ومعرفية، وعلى وفق علاقتها بالفلسفة، ولما تتسع له من مساءلات نقدية تخص هوية المفهوم والمصطلح، وهوية النسق الذي يمارسان من خلاله وظائفهما في البناء والدلالة وفي تحقيق ما سماه الغذامي ب" الوظيفة النسقية" التي أسهمت بشكل كبير في تأطير فاعلية المفهوم في نظام الخطاب، وفي تمثيل المعالجات النقدية للظواهر الثقافية..