تُظهر برامج الأحزاب الحاكمة، إن وجدت، نظرة قاصرة إلى الثقافة كمحيط تفاعلي نشط من خلال رؤيتها الضيقة لمفهوم التفاعل هذا، والذي يُعَدّ مقياسًا أخلاقيًا معينًا يهدف إلى تحقيق الرفاهية والسعادة للجمهور. إنّ تلك النظرة الضيقة لمفهوم الثقافة تُشير إلى رفض أو التقليل من شأن الثقافة ودورها في تأصيل الأبعاد الروحية والأخلاقية والجمالية.
إنّ الرفض المسبق للثقافة بمفوهمها الأشمل، كنمط حياة وقيم وتقاليد، بدعوى ارتباطها بالديمقراطيات الغربية والفلسفة العلمانية، بجانب السعي لفرض هيمنة النمط الغربي للثقافة، لابد أن يثير جملة من التساؤلات، ففي الوقت الذي تصر غالبية الأحزاب ـ الإسلاموية ـ على تلك النظرة، تسعى في الوقت نفسه، لتطويع الثقافة ومنظماتها في مشروعها السياسي وكسب الأصوات، وخطب ودّ بعض المثقفين وتقريبهم من برامجها، وسعت للهيمنة وفرض وجودها ومشروعها (السياسي ـ الاقتصادي)، بل في أغلب الأحيان، حاولت التدخل في طبيعة وسير أعمال الكثير من المنظامت ذات الصلة بالثقافة العراقية، سواء بالضغط والترهيب، أو بالترغيب والدعم المشروط، لتُعيد بذلك سياسة النظام السابق ونظرته للثقافة كمطية لمآربه وطموحاته السياسية وخطط هيمنته.
لقد شهدنا جميعًا الغياب المطلق للثقافة وخطط دعمها المستقبلية من برامج الأحزاب المتحاصصة في تقسيم غنيمة الحكم، ناهيك عن النظر إلى وزارة الثقافة نفسها، بغض النظر عن دورها المُلتَبس الحالي، كوزارة هامشية ووزارة ترضية، تتقاذفها ألأحزاب فيما بينها، كما لو أن الجميع يريد التخلص منها، لأسباب باتت معروفة للجميع، لجهة عدم كثرة تداول الأموال والمشاريع التي يسيل لها لعاب تلك الأحزاب.
لقد أدت تلك النظرة لتحويل وزارة الثقافة، على سبيل المثال، إلى حالة هلامية عديمة الهوية والوظيفة في ظل النظام السياسي الحالي، بعد أن غلّبت الأحزاب المهيمنة المفهوم (الأخلاقي) على المفهوم الثقافي، وخلصت إلى أنّ الثقافة ما هي إلا مجرد أخلاقيات وسلوكيات علمانية، وتغفل الجوانب الأخرى للثقافة كالفنون والأدب والعلوم ودورها في تشكيل مجتمع حديث ومتطور.
من جهة أخرى فإنّ هذه النظرة القاصرة إلى الثقافة قد تُعيق التفاعل والتكامل مع الثقافات الأخرى، وتُعيق بناء علاقات سليمة ومتوازنة مع الدول والمجتمعات الأخرى، ناهيك عن تفويت الكثير من الفرص المتاحة لانتشار المنتج الثقافي والتعريف به على الصعيد الأقليمي والدولي.
لقد أدى مفهوم الأحزاب المهيمنة على القرار السياسي في العراق، إلى مسخ دور ووظيفة وزارة الثقافة ومديرياتها المختلفة، وفوّت الفرصة لاستغلال تلك الدوائر لصالح النشاطات والفعاليات الثقافية في المحافظات، كما أدى، في الغالب، إلى فرض وزاراء يدينون بالولاء لأحزابهم وزعماء كتلهم، عن طريق المحاصصة الحزبية والمكوناتية، من دون أن يتمتعوا بالفهم اللازم لدور الثقافة وخطورتها في رسم مستقبل البلد وتحصين أجياله المقبلة وتنمية الوعي الوطني لديهم.
إنّ الجهة المكلفة تشكيل الحكومة الجديدة، أيًا كانت، مدعوة وبإلحاح، إلى إعادة النظر في دور الثقافة وأهميتها الوطنية، على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي والتربوي، لما فيه صالح الأجيال الجديدة وترصين فهمها الوطني.
* {الطريق الثقافي}
إفتتاحية العدد 173