الديمقراطية، من يوم وجد هذا المفهوم، هي التعبير عن ارادة الشعب في اختيار نظام الحكم الذي يصبو اليه، والديمقراطية هي وجه من أوجه العدالة الاجتماعية لأن يتساوى فيها الرئيس مع أبسط مواطن في المجتمع، الديمقراطية بنية فوقية تُنتج في المجتمعات الراقية الراسخة سياسيا واقتصاديا ودستوريا، تعمل على دفع هذه المجتمعات نحو التطور والازدهار واللحاق بركب البشرية وزمنه السائر الى امام.
أحدى الممارسات الديمقراطية في المجتمعات المتحضرة هي الانتخابات حيث هناك جملة من المؤسسات القانونية والتشريعات الدستورية التي تمنح الشرعية لهذه الانتخابات، بوجود قانون للأحزاب ومنظمات المجتمع المدني الحقيقية تراقب تطبيق الديمقراطية في كل المفاصل الحياتية، وقانون انتخابي يساهم في التمثيل العادل لكل مكونات المجتمع ويضمن حقوق الأقليات ويدعم وجودها ويعلي من صوتها الواهن.
يجب أن تخلو أية انتخابات من الأنشطة وبرامج الترغيب والترهيب باستعمال المال العام أو قدرات السلطة التي تتحكم بالجوانب المعيشية لدى شرائح المجتمع الفقيرة أو التهديد بالسلاح والقمع والانتقام ضمن مجاميع مسلحة وميلشيات غير شرعية لا سند قانونيا لها في الدستور، وكلها تعمل على تغيير بوصلة الاختيار عند المواطن وتدفعه الى بيع صوته الى من لا يستحق الفوز والتربع، ممثلا للشعب، في المجالس التشريعية المحلية والنيابية.
والسؤال هنا، هل أن ماجرى من انتخابات في العراق وما أسفرت عنها من نتائج مخزية تعتبر عملية ديمقراطية..؟ الجواب لا يحتاج الى كثير من التأمل والتفكير فالفضائح منذ اليوم الأول للحملات الانتخابية ولغاية انتهائها كشفت أن ما حصل في العراق هو تدوير لرموز وعناوين سياسية، حملت في جعبها منذ اليوم الأول لسقوط نظام صدام عام 2003 وحتى يومنا هذا، الأفانين في سرقة المال العام وترسيخ نظام المحاصصة الطائفية والعرقية ضمانا لمصالحها الحزبية والفئوية، وعملت على تخريب النسيج الاجتماعي وحفرت شرخا بين الطوائف والأديان والأعراق والأقليات، لا يلتحم ولا يمكن اصلاحه لا الآن ولا في المستقبل المنظور.
ان المراقب للانتخابات النيابية منذ عام 2005 وحتى هذه الدورة السادسة عام 2025 ، يلاحظ انه لم يحصل تغيير يذكر، فالوجوه هي هي ومازال البلد بلا تطبيق لقانون الاحزاب، فيما القانون الانتخابي وعتبته العالية وضعته الأحزاب والكتل السياسية المهيمنة، بعقولها الشيطانية الرهيبة، وإذ بيدها السلطة المطلقة، استحوذت على المال العام واشترت الذمم الرخيصة بانفاقها المليارات من الدولارات، وتوزيع القطع السكنية والمغانم للشيوخ، والخدمات الآنية البسيطة والوظائف المجانية على المواطنين من أجل أن تبقى الآلهة المطاعة التي لا منافس لها، تدفع بهذا البلد المشلول نحو المجهول والضياع.
ولم تستطع القوى المدنية التنافس مع هذه الكتل والأحزاب التي تهيمن على السلطتين التنفيذية والتشريعية، فالقوى المدنية ليس لديها الامكانيات المادية ولا الدعاية الانتخابية ولا تمتلك القنوات الفضائية ولا تعد شخصا بالتعيين أو دفع الأموال، فسلاحها الوحيد هو أصواتها الحرة التي تدعو الى تحرير المجتمع والمؤسسات الحكومية من قبضة النظام الفاسد، الذي رسمه الطائفيون والعرقيون أصحاب الأجندات المشبوهة، الذين كبلوا البلد بالديون المرهقة وبالأحلاف السياسية التي تفضي الى التهلكة.
ولو كانت هناك مفوضية انتخابات عادلة لقامت بالغاء الانتخابات في 11/11/ 2025 لكثرة الخروقات الدستورية، وفضحت الكيفية التي تم فيها شراء ذمم وأصوات الكثير من المواطنين بالأموال الطائلة، واقامة المعسكرات الوهمية التي ادعى البعض من المرشحين بأنها تعود للحشد الشعبي لضمان أصوات الشباب العاطل عن العمل، وتجنيد الملايين من المراقبين ودفع المليارات لهم من أجل انتخابهم. وقد وفر هؤلاء المجندون ما يزيد عن مئة مقعد اضافي في مجلس النواب توزعت بين القوى السياسية المهيمنة، وهناك الجرائم والتسقيط السياسي والتهديد، التي مارستها كل الكتل السياسية الشيعية والسنية والكردية، ولا يمتلك المواطن المسكين سوى الندم والحسرة على مصير بلد سائر الى الدمار والفناء، وجعل منه اضحوكة ولعبة بأيدي السياسات الأمريكية والايرانية والخليجية والغربية.
ما ينتظر العراقيين في المستقبل القريب هو المزيد من المشاكل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وما زال هؤلاء يعملون جاهدين، بسبب عمالتهم وجهلهم، على تشظية المجتمع وتحويله، إن طال بقائهم، الى أقاليم ضعيفة هشة تتحارب في ما بينها وتأكلها في النهاية الماكنة الاستعمارية وبلدان الجوار، ويعجلون بموتها وفنائها الأبدي.