يعد التعليم المهني في العراق ركيزة أساسية لتطوير الاقتصاد ودعم سوق العمل بكفاءات فنية ومدربة، لكنه للأسف يعاني اليوم من تراجع واضح وتهميش كبير، رغم تزايد الحاجة إلى العمالة الماهرة في مختلف القطاعات.
ويعد ضعف الدعم الحكومي، قدم المناهج، ونظرة المجتمع السلبية، عوامل أثرت سلبا على هذا القطاع الحيوي، ما أدى إلى جعله خيارا أخيرا لدى الطلبة وأسرهم.
ويؤشر مراقبون وجود تراجع كبير في الاقبال على التعليم المهني، الا ان مصدرا حكوميا اكد ان هناك اقبالا كبيرا على مدارس التعليم المهني، وقد اصبحت مدارسه تكتظ بالطلبة.
تعليم في طريقه للاندثار!
وبخلاف حديث هذا المصدر، يقول المشرف التربوي حيدر كاظم، أن نسبة الطلبة الملتحقين بالتعليم المهني في العراق متدنية جداً، رغم ما يشهده سوق العمل من نقص شديد في الأيدي العاملة الماهرة.
ويضيف في حديث لـ"طريق الشعب"، أن عدد المدارس المهنية في البلاد لا يتجاوز 316 مدرسة، تستقبل سنوياً نحو 25 ألف طالب فقط، وهو رقم لا يتناسب إطلاقاً مع الحاجة الحقيقية للسوق.
ويعزو كاظم هذا التراجع إلى غياب استراتيجيات حكومية واضحة تدرك أهمية التعليم المهني، مشيراً إلى أن العراق كان يضم في السابق معاهد متخصصة في النفط والإدارة والسياحة والصناعات المختلفة، لكنها اندثرت، ما أثر سلباً على مخرجات هذا القطاع.
ويشير إلى أن ضعف البنية التحتية للمدارس المهنية، وعدم تطوير المناهج، وغياب التدريب المستمر للكوادر التدريسية، كلها عوامل ساهمت في تدني جودة التعليم المهني في البلاد.
مناهج قديمة
ولا يقتصر التحدي على ضعف التخطيط فحسب، بل يمتد إلى نظرة المجتمع العراقي التي تعتبر التعليم المهني أقل شأناً من التعليم الأكاديمي، ما يؤدي إلى عزوف الطلبة عن الالتحاق به، في ظل محدودية فرص القبول في المعاهد والجامعات، وتقليص فرص التعيين الحكومي لخريجي هذا المسار التعليمي.
ويضيف كاظم أن العراق يفتقر لاستراتيجيات واضحة في مجالات حيوية كالصناعة والزراعة والتقنيات المتقدمة، بما في ذلك الاتصالات والذكاء الاصطناعي، داعياً الحكومة إلى إعادة النظر في سياساتها التعليمية باعتبار التعليم المهني استثماراً مستداماً لمستقبل البلاد.
ويبين أن وزارة التربية لم تبادر حتى الآن بتطوير مناهج التعليم المهني، حيث ما تزال تلك المناهج قديمة وغير متوافقة مع المتغيرات التقنية الحديثة، رغم أن العراق بات في أمس الحاجة إلى كوادر وسطى وتقنية تواكب متطلبات سوق العمل وتسهم في بناء اقتصاد إنتاجي حقيقي.
ويختتم حديثه بالإشارة إلى أن الحروب والنزوح والأزمات الاقتصادية، إلى جانب ضعف التخصيصات المالية وغياب الاهتمام الحكومي، شكلت عوامل رئيسية ساهمت في تقهقر هذا القطاع.
تصور مجتمعي سلبي واهمال حكومي
فيما يقول الناشط في مجال التعليم أبراهيم الدليمي لـ "طريق الشعب"، إن "العزوف المتزايد عن التعليم المهني في العراق يعكس فشلا مزدوجا، يبدأ من النظرة المجتمعية السلبية تجاه هذا النوع من التعليم، ولا ينتهي عند غياب الرؤية الحكومية لتطويره ودمجه في سوق العمل".
ويضيف الدليمي، أن "العديد من الأسر تعتبر التعليم المهني مسارا للطلبة الضعفاء في الاستيعاب الدراسي، وليس خيارا يمكن أن يفتح آفاقا مهنية حقيقية، وهذا تصور ناتج عن سنوات طويلة من التهميش وضعف النتائج الواقعية لهذا النوع من التعليم".
ويشير إلى أن "غياب الدعم الحكومي الجاد، سواء من ناحية توفير بنى تحتية متطورة أو تحديث المناهج وربطها بحاجات السوق، جعل من التعليم المهني خيارًا غير جاذب، ما تسبب في تراجع الإقبال عليه بصورة مقلقة".
ويخلص الى القول: "نحن بحاجة إلى حملة شاملة لإعادة الاعتبار للتعليم المهني، تشمل إصلاحا حقيقيا في النظام، وتعاونا مع القطاع الخاص، إلى جانب تغيير الصورة النمطية لدى المجتمع عبر الإعلام والبرامج التوعوية".
الطلاب يواجهون صعوبات متزايدة
من جانبها، تقول التربوية حنين الحلفي أن أحد أبرز أسباب تراجع الإقبال على هذا النوع من التعليم يكمن في جمود المناهج وافتقارها للتحديث بما يتلاءم مع متطلبات العصر.
وفي حديثها لـ "طريق الشعب"، تذكر الحلفي أن وزارة التربية لم تبذل الجهود الكافية لتطوير مناهج التعليم المهني، ما جعله يبدو غير جذّاب للطلبة، ويفتقر إلى القدرة على المنافسة مع التعليم الأكاديمي العام. "ما زالت المواد الدراسية تُدرس بذات الأساليب القديمة، دون أن ترافقها أدوات تطبيقية أو تدريب عملي حقيقي يربط الطالب بسوق العمل"، تقول الحلفي.
ويضيف أن العراق في أمس الحاجة إلى الكوادر الوسطى والتخصصات التقنية التي من شأنها أن تنهض بقطاعات الإنتاج والخدمات، إلا أن سياسات الحكومة تقف عائقا أمام ذلك، من خلال تقليص فرص التعيين لخريجي المعاهد المهنية والإعداديات، الأمر الذي يقلل من جدوى هذا المسار بنظر الطلبة وأسرهم.
وترى الحلفي أن النظرة المجتمعية الدونية تجاه التعليم المهني تفاقم من الأزمة، حيث يُنظر إليه كخيار اضطراري للطلبة ذوي المعدلات المنخفضة، لا كمسار ذي قيمة استراتيجية. "طلاب التعليم المهني يواجهون أيضا صعوبات في مواصلة دراستهم الجامعية، ما يضعف من الحوافز ويُشجع على الهروب الجماعي نحو التعليم الأكاديمي".
وتدعو الحلفي إلى ضرورة تبني خطة شاملة لإصلاح التعليم المهني، تشمل تحديث المناهج، وبناء شراكات حقيقية مع القطاع الخاص، وتوفير فرص حقيقية للتعيين والتطوير المهني، إلى جانب تغيير الخطاب المجتمعي والإعلامي تجاه هذا النوع من التعليم باعتباره ركيزة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وليس بديل أدنى من التعليم العام.