تُراهن السينما الصامتة منذ بدايتها على الصورة ولا تعوّل على الحوار أو اللغة المنطوقة لكنّ هذا الرهان سوف يتبدّل في 6 أكتوبر 1927م عندما ينطق أول فيلم في تاريخ السينما وهو "مغنّي الجاز" للمخرج الأمريكي آلان گروسلاند الذي أحدث نقلة نوعية في عالَم الفن السابع علمًا بأنّ الصوت لا يقتصر على الحوار حسب وإنما يتعداه إلى الموسيقى التصويرية والمؤثرات الصوتية.
وعلى الرغم من مرور 98 سنة على الفيلم الصامت يعود بعض المخرجين إلى الرهان البصري الأول الذي يستطيع فيه الممثل أن يقول كل شيء من دون أن ينبس ببنت شفّة. ولو تأملنا الفيلم الوثائقي القصير "ابراهيم" للمخرج العراقي علي يحيى الذي بلغت مدته 16 دقيقة لا غير لوجدناه مستوفيًا لغالبية اشتراطات الفيلم الوثائقي الناجح رغم أنّ بطله "ابراهيم" لم ينطق بحرف واحد لكنه قال كل ما يريد بواسطته معالم وجهه المعبِّرة، وقدرته على تجسيد حالات الغربة، والألم، والحزن العميق على ما حلّ بعائلته وأرضه وبيئته التي كان مندمجًا بها إلى حد التماهي.
تتمحور ثيمة الفيلم الرئيسة على "التغيّير المناخي" والجفاف الذي ضرب خمسة بلدان من بينها العراق. ولم يشأ المخرج علي يحيى ومعه الكاتب محمد باز الذي شاركه في كتابة السيناريو، ونعني به القصة الصامتة التي تحتاج من المتلقي أن يُعيد لملمة أطرافها المتناثرة التي تروي معاناة ابراهيم الذي لم يجتز عامه العشرين بعد.
ورغم قِصر مدة هذا الفيلم الوثائقي إلّا أنه يعالج ثيمات متعددة من بينها الطبيعة وخاصة الأهوار، والحيوانات وإن اقتصرت على الجاموس، والعائلة وإن جاء التركيز على الأم والابن المستوحد وبعض الشخصيات الأُخَر التي رأيناها وهي تجزُّ القصب والبردي أو تُلقي النظرة الأخيرة على الجاموسة التي نفقت بسبب الجوع والعطش وقسوة الظروف المناخية الجديدة.
لقد اختار المخرج وكاتب النص بيئة الأهوار بوصفها "جنة تجري من تحتها الأنهار" وإن كان العنوان الأجنبي للفيلم (Flow Beneath Which Rivers) الذي يعني حرفيًا "تحت أي الأنهار تتدفق" لكنه يحيل إلى جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها . .
كما جاء في سورة (التوبة: 72) ولو تأملنا وجوه الشخصيات الرئيسة وخاصة ابراهيم وأمه التي كانت تصنع الخبز لوجدناها متوحدة معزولة لكنها راضية بهذه العزلة ومندغمة بأجوائها وفضاءاتها الساحرة؛ فالجاموسة هي رفيقته الوحيدة التي تعرف خلجاته الداخلية فلا غرابة أن يحتضنها في البرِّ والنهر ويُطعمها بما تجود عليه الطبيعة المائية الحانية بما تبقى من خيراتها التي كانت وفيرة ذات يوم. ذات صباح ضبابي كثيف يشعر ابراهيم بنُذُر السوء حيث تنحسر الأنهار، وتتشقق الأرض، وتتلاشى أوتار القصب في إشارة واضحة إلى انهيار عالمه الجميل الذي يحتضن البشر وبقية الكائنات الحيّة وأهمها الجاموس الذي يستطيع أن يتفاهم معه بلغة الحواس. لقد استطاع المخرج علي يحيى أن يروي لنا قصة متكاملة لشاب عراقي يحمل بين جوانحه أخطار الكارثة التي تُهدد وجودهم وتنسف نمط حياتهم.
ما يميز هذا الفيلم ليس قصته المحبوكة فقط وإنما أسلوبه الشاعري في اصطياد وتصوير اللقطات التأسيسية والمقرّبة التي رصدت العلاقة الإنسانية بين ابراهيم وجاموسته الأليفة، ووفائه لهذا المكان الحميمي الذي لا يريد أن يغادره مهما تفاقمت الأزمات والشرور التي جاءته من حيث لا يحتسب.
أشادت لجنة التحكيم الدولية في الدورة الـ 75 لمهرجان برلين السينمائي الدولي ومنحت الفيلم تنويهًا خاصًا لما ينطوي عليه الفيلم من تصوير شاعري للتغيرات المناخية التي طرأت على أهوار العراق المُدرَجة على قائمة التراث العالمي لليونسكو كونها من المواقع الطبيعية الأكثر تفردًا في العالم.
عُرض الفيلم في خمس صالات سينمائية إضافة إلى مشاركته في سوق الأفلام الأوروپية وحظي باهتمام واسع من لدن النقاد والمتلقين.