اخر الاخبار

السيرة الذاتية، ذاكرة تحمل بصماتها الشخصية وحضورها زماناً ومكاناً.. ولما كان لكل انسان سيرته الذاتية التي تختلف عن سواها؛ يصبح من الطبيعي ان يكتب كل فرد ما يشاء من تجارب وذكريات ومواقف ومحن.. على وفق ما يراه يستحق الذكر او يحتفظ به ليظل قيد كتمانه.

واذا كانت السير الذاتية لبابلو نيرودا او اندريه مالرو، او حمزاتوف، او استيفان زفايج، او رامبو وغيرهم قد تركت آثارها الحية في حياة قرائها وجعلتهم يقفون عند محطات استثنائية وتجارب ساخنة، فان هناك الكثير من السير الذاتية/ الشخصية العابرة التي لا تجد صداها لدى المتلقي، بوصفها سيراً عادية لا تأثير لها على الآخرين. كذلك نجد الكثير من الاعمال التي تزعم على انها (روايات) لا تخرج عن الذكريات والتجارب العاطفية وهو ما يجمع بينها في الغالب، من دون ان يكون لها أي صدى لدى قارئها، الا ان سيرة ذاتية جديدة، اطلت علينا بعنوان "حتى مصرع الفجر/ سيرة سجين سياسي"* للأستاذ خضير عبد الحريم.

تقدم عنواناً مغايراً لعبارة (حتى مطلع الفجر) ليكون هذا الفجر الذي نستبشر به في المألوف.. قتيلاً، ويعلن المؤلف مصرعه! وعندما نتواصل مع هذه السيرة التي تمتد الى مئتي صفحة، نتبين جملة من هذه السيرة التي لا تتفرد بمؤلفها ولا الشخصيات الحقيقية التي يدون اسماءها حسب؛ وانما يجد الكثرة منا حضوره في محور او اكثر من محاورها التي كانت السلطة السابقة (عادلة) في توزيعها على كل المعارضين لسياستها وأساليبها القمعية.

من هنا تتحول هذه السيرة من خصوصيتها الى اعمامها على نطاق واسع، حتى لنجد ان الأساليب القمعية والتعذيب والسجون والمحاكم والخيانة والتجسس والبسالة والمواقف الصلبة.. تمتد في حياة شخصيات وطنية عديدة، مثلما تمتد زماناً ومكاناً.. ليس في العراق لوحده وانما في كل الأنظمة القمعية الشمولية التي لا تحيا الا عن طريق كتم الانفاس واتباع شتى أساليب التنكيل بالمناوئين لها.

وفي السيرة "حتى مصرع الفجر" نجد مشاهد ساخنة، تبدأ بـ (مجرد التفكير بمعاداة السلطة سيكلفك كثيراً، بما فيها رقبتك التي ستكون ارفع من شعرة امام حسام سلطة لا ترحم). الى الإعدام والى سجن (أبو غريب) الرهيب في احسن الأحوال! وهذه المسافة بين التفكير في معاداة السلطة والنهاية المأساوية، لا بد ان تمر بسلسلة متعددة الصور.. منها: "سجن بلا قمل، هو سجن بلا هوية، والسجين الذي لا تقلق القملة نومه ولا تنغص عليه ليلته هو سجين (فايخ) ومدلل ومن طراز خاص.." او "تسلل بعض الحراس بهدوء الى القاطع لتقصي من هو على قيد الارق والسهر ومن هرب النوم من جفنيه، فيكون بذلك وجبة دسمة يتسلون بها في ليل الشتاء الطويل". او التعامل مع السجناء السياسيين كما لو انهم (قطيع اعمى) وان عليهم (ننام بميقات، ونصحو بميقات، ونأكل بموعد، ونتبول بموعد، محسوبة علينا حركاتنا في اليقظة والنوم وحتى في الاحلام"! اما أساليب التعذيب الوحشية، اما أساليب الاعتقال التعسفية، اما زرع المرتزقة والجواسيس والمتعاونين مع السلطة في صفوف المناضلين المناوئين للسلطة، فكلها ممارسات تقليدية في ظل حكم دكتاتوري لا شاغل له سوى تصفية خصومه والتخلص منهم، بوصفهم كائنات ضارة لا بد من القضاء عليها او استئصالها من جذورها. حتى لا تبقى هماً دفيناً، ولا يكون لها امل في تحقيق أهدافها يوما ما.

من هنا كان الفجر قتيلاً.. ذلك ان كل الطرق التي عمل عليها أصحاب هذه السيرة الجماعية الحية، أصابها الإخفاق وراح ضحيتها المئات.

الا ان الإشارة الى الفجر بالذات وعلى الرغم من (مصرعه) يظل موقفاً وأملاً ومساراً والوطن الأبهى والشعب الأكثر سعادة ورخاء. لذلك يمكن ان نعد هذه السيرة، صفحات خالدة لطبيعة النضال الذي خاضه أصحاب المبادئ التقدمية وهم يحملون (إرثاً) مأساوياً من العذابات والمحن والقمع والموت.. ومع ذلك احتفظ أصحاب القيم النبيلة بشجاعتهم وقوة عزيمتهم ورفضوا الانصياع لقوى الظلام والجريمة.. فكان الفجر. مطلع النهار المنشود.

ــــــــــــــــــــــــــــــ

*حتى مصرع الفجر/ سيرة سجين سياسي/ تاليف: خضير عبد الرحيم- دار سطور/ بغداد 2025.