اخر الاخبار

يعد فن المسرح، احد روافد العلوم الاجتماعية التي تعنى بالأحداث والرؤى البشرية، كذلك علم السياسة، يعد هو الآخر رافداً للعلوم الاجتماعية، الا انه يتفرد عن فن المسرح بوصفه علماً معرفياً يعنى بنظم الحكم وإدارة الدولة. وعندما تتفاعل حياة المجتمع مع الحياة السياسية (الدولة) يصبح فن المسرح فناً يتلمس طريقه الى تنبيه وتصويب ولفت نظر الدولة الى الأوضاع الاجتماعية بكل ما تحمله من مشكلات وعقبات وحاجات والتزامات يفترض ان تتكفل بها سياسة الدولة.

في الوقت نفسه، تتولى مؤسسات الدولة، تنظيم ودعم وتعزيز دور هذا الفن مما يخدم ويعزز إرادة الشعب وتفاعله مع الدولة، بوصفهما علمان اجتماعيان يحتاج كل منهما الى الآخر لتحقيق ما يصبوان اليه من إعمام السلم والحياة السعيدة لبناء البلاد ورفاهية الناس.

لقد كانت مسرحية "عدو الشعب" لأبسن مثلاً واحدة من الاعمال المسرحية التي حركت مسار الحياة السياسية ليس في النرويج – موطن ابسن- حسب وانما تحولت الى خطاب انساني ينبه كل الدول الى احترام إرادة الانسان والعمل على تلبية حاجاته الملحة والكشف عن زيف وكذب ودجل وثراء الطبقة السياسية الفاسدة وادامة اساليبها القمعية.

كذلك الامر مع مسرحية "المفتش العام" لغوغول، التي بات خطاب كاتبها الروسي، خطاباً انسانياً معبراً عن أولئك الذين يزيفون الحقائق بنية الوصول الى مآربهم.

كما كانت مسرحية " الحضيض" لغوركي، الروسي، هي الأخرى، مسرحية تكشف أحوال الناس الذين يعيشون في قاع المدينة، وتنبيه السياسيين الذين يديرون الحكم، لإصلاح احوالهم والعمل على بناء مجتمع عادل في كل مكان.

فيما كشف المسرحي الألماني بيتر فايس عن أساليب القمع التي تمارسها سلطات الحكم ضد مناوئيها وذلك عن طريق مسرحيته " مارا – صاد " التي ادان نصها الإنساني كل أنظمة الحكم في العالم والتي تمارس القمع وتحجب الحريات.

وفي مسرحية "الارامل" لآرييل دوفمان التشيلي، كشف من خلالها عن جرائم الحروب وأساليب الدمار البشري التي يشكل انموذجها التشيلي، صورة إنسانية يمكن ان تقع في أي بلد تحكمه طغمة دكتاتورية.

والحال نفسه مع الاعمال المسرحية لـ سعد الله ونوس/ سوريا، ألفريد فرج، يوسف ادريس، سعد الدين وهبة، عبد الرحمن الشرقاوي/ مصر، ويوسف العاني، قاسم محمد، نور الدين فارس، عادل كاظم، جواد الاسدي/ العراق. الأمثلة كثيرة، وفي بلدان عديدة، كانت ولم تزل، المسرحيات التي تحمل خطاباً سياسياً، هي الأكثر حضوراً في حياة المجتمعات كافة، وفي ذاكرة مُرة لدى كل القوى القمعية التي تتولى الهيمنة على مقاليد الحكم وتمارس اعمالها الشوفينية الاجرامية.

نعم، هذه هي مهام المسرح الحقيقية، التي لا يرتجى منها تسويف واستغفال وتجاوز هموم الناس، والبحث عن (مسرحيات) تهريجية او تجريدية، تكون تارة ساخرة من أصحابها اكثر من سخريتها ونقدها لواقع مترد، بغية تحقيق متعة مجردة من المعنى – كما جرى في المسرحيات الاستهلاكية/ التجارية التي تم عرضها اثناء الحرب العراقية الإيرانية في الثمانينيات، وذلك عن طريق دعم الدولة لهكذا عروض، من اجل ابعاد الناس عن كوارث الحرب التدميرية التي طالت كل بيت.

وعلى العكس من هذه المسرحيات التهريجية، بتنا نشهد عروضاً مسرحية تجريدية، لا يخرج المشاهد من ثقلها الا وهو مجرد من الزمن ومن الفهم ومن حكمة العرض.. الذي لا يراد منه سوى الابهار في استخدام التقنيات الحديثة التي يفترض ان تكون في خدمة المعنى والرسالة المراد ايصالها الى الجمهور وليس تجريده منها.

واذا كانت حركة المسرح الراهن في العراق، قد أخفقت في عدد كبير من العروض، فان هذا الإخفاق بدلاً من معالجته بنصوص مسرحية جادة، اصبح الهروب الى (مهرجانات مسرحية دولية) واحدة من الأساليب الزائفة التي تمارسها مؤسساتنا الثقافية والفنية منها على وجه الخصوص. صحيح ان هناك مسرحيات رصينة قدمها: جواد الاسدي ومثال غازي مثلاً، الا انها نماذج قليلة جداً لا تقاس بحجم الخراب الذي نشهده راهناً.

الى جانب هذا الغياب الواضح في عروض المسرح العراقي الجاد، انتقل الخراب الى الدراما التلفزيونية  - تعويضاً عن غياب عروض المسرح – فما شهدناه من نماذج عديدة في شهر رمضان؛ جردت من أية رسالة وطنية يمكن ان نتوجه بها الى المجتمع والى تنبيه السلطات المعنية – على الرغم من الدعم المالي والمعنوي الذي عملت عليه الحكومة لتعزيز هذه الدراما التي يفترض ان يكون لها حضورها في وعي الناس – ان فن المسرح والفنون الدرامية الأخرى، فن النخب الثقافية والمعرفية والابداعية التي تعمل على تنوير المجتمع ونقد كل ما هو سلبي ووضع الدولة امام مسؤولياتها،  لا ان يكون هذا الفن الراقي، مهنة من لا مهنة لهم، او سبيلاً للارتزاق او تملقاً او نفاقاً او رعاية للسلطة – أية سلطة كانت – ان وجود مؤسسة للسينما والمسرح، ووجود مديرية للدراما في شبكة الاعلام العراقي، لا يعني ان المسرح والدراما العراقية بخير.. بدليل ان عدداً كبيراً من العاملين في هذه المؤسسة وهذه المديرية، لا علاقة لهم بهذه الفنون اصلاً، فكيف يفحصونها ويقرون عرضها وهي لا تمت بصلة للفن ولا لرسالته؟

من هنا نرى ان المسرح والدراما عموماً، لكي يكونا بخير وعطاء، لا بد للقائمين عليهما، من استقطاب أصحاب الخبرات والكفاءات المتخصصة بهذه الفنون، بغية تحقيق اعمال لها تماس بالوطن والمواطن، لا ان تجرد المواطن من قيمه ووعيه وارادته.

نعم، ان خطاب المسرح، خطاب اجتماعي – سياسي، لا يطاله الا من خبر التجارب واكتنز المعرفة واتخذ المواقف الوطنية الصادقة التي لا تهاون ولا تزيف ولا تتغافل عن نقد واقع ملئ بالسلبيات.. ذلك ان فن المسرح، هو الفن الذي يؤكد على المعرفة والتجربة والموقف، لإيصال حقائق حية تعني المواطن، بدءاً من قوت يومه، الى واقعه المتردي الى حرياته وامنه ونشر العدالة بين افراده.

نعم، المسرح.. خطاب تنويري لا بد من الالتفات اليه واغنائه بالعناصر القادرة على تحقيق هذا التنوير المنشود.. ذلك ان السياسة لا تبنى بالشعارات والمهرجانات وأساليب الدعاية المجردة، وانما بأولئك القادرين على معرفة ودراية برسالته الإنسانية الراقية والفاعلة والمؤثرة.

فهل من يصغي وهل من يراجع وهل من يحول هذا النداء وسواه الى أفعال حقيقية يتلمس وجودها المواطن وتصغي الجهات المعنية الى ما ورد؟ نأمل.. ونأمل كذلك.